حكايات أشباح المنزل المسكون في قرية جدي |
كان ذلك الجرو في استقبالنا حيث ينبح علينا ليخبرنا أنه جالس هنا لحماية المنزل من الغرباء أو ربما لكي يسترعي انتباه جدتي بأن هنالك أحد ما يقف علي باب المنزل حتي تأتي جدتي لتكافئه علي ذلك فيحاول ذلك الجرو التودد إليها ويهز ذيله ليعلن عن حٌبه لها, عندما كنا نلج إلي داخل المنزل كان علي الجانب الأيسر غرفتين أو ثلاثة الغرفة الأولي لجدي والباقي لتخزين الغلال والثالثة للنوم وعلي اليمين ذلك الممر يوجد مكان للحيوانات وخاصة الجاموسة التي تعتز بها جدتي كثيراً
الشيء اللافت لي أن الجميع يجلس سوياً وجدي هذا دائماً يجلس منفرداً , فجدي هذا كان بالنسبة لي عبارة عن صندوق غامض مغلق من الحكايات والألغاز والأسرار والتي ما زلت أجمع عنها الكثير من التفاصيل لكي أفهم أشياء قد رأيتها أو سمعتها عن الروايات التي تتناثر هنا وهناك وعما شاهده أو صادفه هذا الجد أو مر به في حياته فهو شخصية مختلفة كثيراً عما قابلتهم في حياتي فحياته كانت كلها ترحال وأماكن جديدة كل عام.
توفي جدي هذا تقريباً عام ألف وتسعمائة وستة وثمانون حيث كان عمري في ذلك الوقت لم يتخطى الرابعة عشر حيث رحل في صمت
مثل حياته التي كان يعيشها في صمت أيضاً ولكي نعرف الكثير عنه دعونا نعود في آلة الزمان إلي الوراء حيث كان عمري مازال في السابعة عندما كنت أذهب مع والدتي لزيارة جدي وجدتي في تلك القرية والتي كانت ليست قرية بسيطة مكونة من بعض المنازل التي بُنيت من الطوب اللبن مثل الكثير من القري المنتشرة في ربوع مصر كلها, لكنها كانت قرية لها تاريخ ممتد عبر الكثير من العصور حيث شاهدت بعض المنازل المبنية بطريقة تدل أن من كان يسكن فيها في وقت ما له قدر من العلم والوجاهة الاجتماعية في ذلك الوقت.
وعندما حاولت أن أبحث أو أجد عنها بعض المعلومات وجدت أنها كانت مذكورة في كتاب وصف مصر والذي كان يشرح تقسيم مصر الجغرافي وهذا دليل لي أنها قرية قديمة ولها تاريخ حيث حكي لي أحد الأقارب عن حكاية تبدو لي غريبة بعض الشيء وهي حكاية مسجد قديم يعود تاريخه إلي فترة فتح مصر أو في عهد أمير المؤمنين عُمر بن الخطاب ولكنه تهدم لربما للإهمال وتم إعادة بنائه أكثر من مّرة في نفس المكان, لكن العجيب في ذلك المسجد أنهم أرادوا أن يقيموا بعض الإصلاحات في المئذنة القديمة والتي كانت تحمل في أعلاها حجر من الصوان مخروطي الشكل وعندما أرادوا أن يعيدوا بناء تلك المئذنة لم يستطع أحد أن يتعامل مع ذلك الحجر الضخم سوي واحد فقط تبرع للصعود ومحاولة تكسير قاعدة تلك الصخرة حتي سقطت من ارتفاع عالي ويذكر لي زوج خالتي أن هذا قد حدث و كان شاهداً علي تلك الواقعة وهو صغير, عندما سقطت تلك الصخرة سببت في حفرة عميقة في الأرض وقد ذكر لي أنه شاهد عظام ضخمة في قلب الأرض لبشر ربما كانوا عمالقة بسبب ضخامة هياكلهم والذي يتخطى الثلاثة أمتار, بالطبع لا أعلم أي مصدر آخر قد أكد لي هذه الرواية فربما تكون صحيحة أو غير ذلك لكنها منحتني في وقتها الرغبة في رؤية ذلك.
تلك القرية ممتلئة بالمباني القديمة المشيدة من الطوب الأحمر والحديد, منازل مكونة من عدة طوابق تشعر أن من سكنوها كان لهم جاه ومُلك في الماضي, كذلك القصر المهجور بجوار النيل حيث تسكنه الثعابين فكان ملك لعائلة ثرية إقطاعية في الماضي حتي عندما زرت مقابر القرية وجد بها مدفن عظيم به الكثير من النوافذ الزجاجية الملونة والتي تحطم منها الكثير وعندما قرأت ما نقش علي اللوح الرخامي وجد أن هذا المدفن يعود تاريخه إلي أكثر من مائة وخمسون عاماً تقريباً علي ما أتذكر عام ألف وثمانية وخمسة عشر وهذا لم أشاهده في أي مكان آخر, لتلك المقابر حكاية أخري ذكرتها لي والدتي أن في تلك المقابر شجرة ضخمة من التوت وأنها كانت تظلل تلك المقابر بفروعها وأرواقها فذكرت لي أن كان لها أحد أبناء الخال يخرج من المدرسة يتجه مباشرةً إلي تلك الشجرة لكي يتناول حبيبات التوت حيث كان يقفز علي تلك المقابر حتي أنه في يوم ما أصابه شيء ما حيث هجر القرية بدون أن يعلم أحد وأخذوا يبحثون عنه في كل مكان حتي عثروا عليه بعد أمد طويل في أحد الموالد وهو يمدح مع المادحين ولكن لا يعي ما حوله أو يتذكر أي شيء عن عائلته أو طفولته, أعتقد أن تلك الشجرة مازالت موجودة حتي الآن في تلك المقابر
كان جدي قد عمل في البوليس منذ بداية الأربعينات حتي نهاية الخمسينات من القرن الماضي وفي تلك فترة قضي حياته في حالة ترحال من مدينة إلي أخري نتيجة لتنقله بسبب ظروف عمله في البوليس , وأتذكر في زياراتي الأولي أن جدي كان يسكن تلك الغرفة القريبة من باب المنزل حيث كان قليل الكلام دائماً مغلق باب غرفته حيث يجلس منفرداً بداخلها دون الحديث مع أحد
وعندما كنت في سن السابعة كنت أشعر أنني أقتحم غرفته حيث أنها كانت غرفة بسيطة للغاية حيث كان بها مخدع صغير وطاولة ودولاب صغير وواجهته من الزجاج بلونه الأزرق المعتم , كان هذا الدولاب الصغير به كل شيء يخصه ولا يستطيع أحد أن يجرؤ أن يقترب منه, فقط كان يمنحني بعض الحلوى من هذا الدولاب لكي أتركه يجلس في صمته مرة أخري دون أن أعبث بمحتويات غرفته أو هدوءه الذي يسكن جنباته وهذا جعلني أرسم الكثير من تخيلاتي عن هذا الجد في صورة من الغموض حوله دفعتني للمزيد من الفضول أن أتتبع وأجمع ما قيل عنه أو روي عن حياته في السابق.
عندما سألت جدتي لماذا هذا المنزل تدور حوله كل تلك الحكايات؟!! .....
أخبرتني أن كان بالمنزل شجرة كرمه قديمة كانت تظلل بأوراقها وفروعها المتسللة إلي كل أرجاء المنزل, تلك الشجرة كانت مزدهرة تلقي بعناقيد العنب المزدهرة في كل مكان تظلل علي المنزل بأكمله وعندما ماتت تلك الشجرة مات من كان يملك هذا المنزل وخيم الحزن علي أرجائه
لا تعلم جدتي الكثير عن موت مالك المنزل أو ماذا حدث بعد ذلك ولكنه أصبح مهجور بسبب تلك الشجرة الموجودة بداخل فناء هذا المنزل والتي لم يبقي منها سوي ساق وفروع جافة متناثرة في كل أرجاء المنزل, فالأساطير الشعبية تخبرنا أن المنزل عندما تنبت بداخله شجرة كرمه وتزدهر ثم تموت يموت معها أحد قاطني المنزل أو يهجره أصحابه لأي سبب ما وهذا ما حدث في منزل مجاور لي في مدينتي فعندما ماتت الشجرة هجره من يسكنون به وأصبح الآن مهجور معظم الوقت مٌجرد مكان تلهو بداخله أشياء نسترق السمع لها أحياناً
قررت أن أعبر الطريق الذي يفصل منزل جدي عن هذا المنزل حيث وقفت أتأمل ذلك السور العالي الذي يحيط به مما يجعلك من الصعب أن تري ملامح المنزل الخارجية من خارج هذا السور وبعض أفرع شجرة الكرمة الجافة الممتدة فوق ذلك السور مثل أزرع ممتدة وقد ماتت منذ أمد بعيد حتي تلك البوابة الكبيرة الصدأة منذ فترة طويلة حيث لم يجدد أحد هذا المنزل منذ عشرات السنين
عندما تخطيت تلك البوابة القديمة المتهالكة وجدت أمامي ذلك الممر القديم حيث يعلوه تلك الألواح الخشبية التي كانت تحمل تلك الشجرة عندما كانت خضراء ويتدلى منها عناقيد العنب ولكنها الآن تحمل بقايا تلك الشجرة, فقط سيقان وفروع ممتدة كأنها مثل الأموات التي تستغيث من آلام الموت, في مقدمة المنزل كان هنالك حديقة أو بقايا حديقة تمنحك انطباع بان تلك الحديقة كانت مُزدهرة في يوم ما وأنها كانت تحتوي علي شيء يشبه كشك الموسيقي أو مكان مٌخصص لجلوس العائلة ولم يبقي منه شيء سوي بقايا أجزاء لا تدل علي شيء.
تقدمت أكثر داخل هذا الممر الذي يؤدي إلي مدخل هذا المنزل والذي يتكون من عدة أدراج علي جانبيه زخارف تشبه آنية الأزهار وفي نهايتها تمثال صغير يبدو كأنه رأس أسد صغير الحجم, كذلك يتواجد العديد من تلك الزخارف المنتشرة علي واجه هذا المنزل حتي ذلك الطائر الضخم الذي يحلق بجناحيه في أعلي نقطة في المنزل لم يبقي منه سوي أجزاء من جناحيه ربما إنهار في يوم ما بسبب الإهمال, وجدت هذا المنزل مكون من طابقين حيث الجدران الضخمة العريضة وقضبان الحديد التي تشبه قضبان السكة الحديد التي تٌشكل الدعامة الرئيسية في تحمل سقف المنزل وتلك الشرفات أيضاً أسوارها الحديدية المتأكلة من فعل الزمن وهذا يدل أن هذا المنزل يعود إلي أكثر من مائة وخمسون عاماً لأن هذه الطريقة في البناء كانت منتشرة كثيراً في ذلك الوقت حيث أن معظم تلك البيوت قد بُنيت علي الطريقة الإنجليزية في البناء والتي تعود إلي عصر البخار والنهضة في أوروبا.
النوافذ في الدور الثاني كبيرة جداً حيث كانت مقسمة لجزء سفلي ثابت لا يفتح وجزء أعلي متحرك ولكن تلك النوافذ أصبحت ألوانها مختفية لا يتبقي منها سوي آثار أو بقايا قليلة ربما تشعرك أنها كانت في يوم ما باللون الأخضر وبعضها محطم وبعضها لم يكن مغلقاً , كنت في الفناء أتلفت حولي وأنا في حالة من الفزع والجزع أحاول أن أستشف شيء ما, أنظر من حولي لكي أتلمس شيء ما من تاريخ وذكريات هذا المنزل لكي أري أو أشاهد ما كان يحدث في هذا المنزل
كانت المرة الأولي في حياتي أستطيع أن أشعر بما يحدث من حولي في مكان ما, ففي ذلك اليوم شعرت بأن بداخلي طاقة كامنة تجعلني أستطيع التواصل مع المكان وخاصةً الأماكن القديمة, تمنحني القدرة علي تخيل ما قد حدث في هذا المكان أو التواصل مع الأرواح التي تقطن المكان بدون ان أعبث بشيء يزعجها, فقط أحاول أن أتوارد معها فكرياً لكي تنجلي أمامي الرؤية وأكون جزءاً من المكان لبضعة دقائق
كنت في تلك اللحظة مثل الذي يتبع تلك الريشة التي تتطاير في الهواء, كنت أحدق في كل اتجاه أتأمل كل شيء وأعود بالخلف مع كل الأشياء التي بقت مع هذا المنزل فشعرت أن هنالك شيء ما وراء تلك النوافذ يختبئ في الظلام ربما ينظر إلي ربما يشعر بما يحدث بداخلي حاولت أن أحدد ماذا أشعر به وما الذي يقبع خلف تلك النوافذ ولكنني لم أستطع لكني أشعر بأنفاسه المتلاحقة كأنه يخشي أن يأتي غريباً مثلي يقتحم المكان يعبث بذكرياته.
كنت أسمع في أذني ضحكات أطفال تمر في ذلك الفناء أكاد أراهم بثيابهم البيضاء, تلك القمصان البيضاء الصيفية وتلك الشورتات القصيرة بلونها الرصاصي القاتم حيث كان هنالك أرجوحة في مكان ما ولكن الآن ليست موجودة ,فقط أشاهدهم ألمح أطيافهم وهم يركضون ويلهون ويضحكون من وراء بعضهم البعض, هنالك طفل صغير لا يتعدى عٌمره الثامنة ووجهه الصغير بلونه الخمري وشعره القصير المٌجعد وأذنيه الصغيرتين أشعر أنه يتطلع إلي يراني يتعجب من وجودي في تلك البقعة كأنه يتساءل كيف ولجت إلي منزلهم والباب مُغلق من ورائي ؟!! .. كيف صرت أقف هكذا أٌتابعهم ولا أحد يراني سوي هو ؟!!, جزعت وشعرت بالخوف والفزع هل هم مٌجرد أطياف تسكن المكان أم أن الزمن قد جذبني من خلال بوتقة مُظلمة حالكة لكي أتجاوزها, في خضم ذلك أدركت أن هنالك صوت قادم من أعلي ينادي عليهم بصوت أنثوي لكي يصعدوا
لم أستطع الشعور أو رؤية أكثر من هذا, ربما من حالة الجزع التي انتابتني فجأة وشعوري بالزمن دون أدرك ذلك بالرغم من حالة الفضول التي انتابتني لكي أتأمل تلك المرأة التي كان صوتها يأتي من الطابق العلوي ولكن لم أشاهد سوي الأطفال وهم يسرعون داخل المنزل وأنا خلفهم أُتابعهم عن كثب, قررت الدخول لكي أري جدي وأخبره أنني سوف أقضي بعض الوقت معه ومع جدتي
المنزل من الداخل لم يكن به شيء من الأثاث, فقط تلك الغرفة التي تقع علي يمين من يدخل المنزل فربما كانت مٌهيئة للاستقبال الزوار في ما مضي والآن أصبحت مكان جدي المفضل حيث وجدت جدي يجلس علي تلك الكنبة أو الأريكة التي ينام عليها أيضاً أثناء القيلولة وأمامه طاولة وبعض الكتب القديمة في أحد الأركان وبعض الصور القديمة المعلقة علي الحائط حيث أنها صور قديمة جداً ولكن استرعي انتباهي شيئاً ما غريب بالنسبة لي في صورة صغيرة معلقة في الركن القصي, ذلك الطفلين مع سيدة ترتدي تلك البيشة التي تغطي وجهها, ما هذا إنه الطفل الذي كنت أتتبع خطواته منذ قليل وقد تطلع إلي وجهي, يا تري من هذا الطفل وماهي حكايته وهل مات وهو صغير أم مازال حي يرزق ؟!!!.
فالواقع لم أهتم بجدي كثيراً عندما ولجت داخل المنزل حيث كنت أتطلع في تلك الجدران العالية , أشعر بأشياء تسير من حولي, فالمكان مليء بالطاقة حتي أكاد أشعر بأنفاس متلاحقة تلهث من حولي كأنني قد هويت في متاه من الأنفاس لأشياء لا أراها, أكاد أري أثاث المنزل المٌتناثر في كل جانب وهذا الدولاب الزجاجي الشفاف وبعض الفضيات والصيني الذي كان مٌرتباً بشكل جيد بلونه البني الداكن, أري ضوء الشمس يسطع في المكان وأشعة الشمس التي تخترق المكان مٌجسمة علي هيئة خطوط متوازية والطفل الصغير الذي يراني يقف ينظر إلي ثم يكمل مسيرته في اللهو مع أخيه, استمريت في ذلك البهو حتي ذلك الممر الذي يؤدي إلي نهاية المنزل, أشياء كثيرة تزدحم في جنبات عقلي بجوار كل تلك الأفكار المشوشة ربما يشعر بها جدي حيث نظرت إليه لأخبره بأنني أشعر بهم حولي فهم اكثر من شيء واحد, لم أستطع أن أصف له ما بداخلي من إحساس بالمكان, ابتسم جدي لي ولم يتكلم كأنه لا يريد أن يتحدث معي عنهم بل يريد أن يعيش معهم, ربما هو يحترم رغبتهم أكثر مني لا يرغب أن يزعجهم ويخرجهم من عالم الذكريات الذي يتجولون بداخله, فقط يتطلع إليهم من خلال تلك الصور المتناثرة علي تلك الجدران حيث تركها من ترك هذا البيت لجدي, تلك الصور ذات الطابع القديم والذي بلاشك يعود تاريخها إلي أوائل القرن الماضي من خلال طريقة التصوير والثياب.
تقدمت نحو ذلك الممر بداخل البيت حتي وجدت ذلك الدرج الذي يؤدي إلي الطابق العلوي فقررت الصعود لأشاهد وأشعر بذكريات هذا المكان ولكنني عند منتصف الدرج لم أستطع حتي كادت أنفاسي المتلاحقة تشعرني بصعوبة التنفس فركض وهربت من هذا المنزل مسرعاً حتي لا أكون أسيراً له مثل جدي هذا.
بقلم الكاتب الدكتور
محمد عبدالتواب
( الكلمات المفتاحية )
إرسال تعليق