أشباح العربة الخضراء القديمة |
أتذكر وأنا طفل لم يتخطى عمري التاسعة تلك العربة الخضراء بلونها الزاهي والتي كان يمتلكها أحد جيراننا حيث كانت تٌستخدم لنقل الركاب من خلال سائق يعمل لدى جارنا هذا, تلك العربة كانت قديمة جداً بلونها الأخضر الزاهي, ضخمة تعود إلى فترة الأربعينيات حيث كان لها حواف عريضة بارزة يمكنك الوقوف عليها طوال رحلة السفر, كنت أراقب جارنا هذا عندما تمر تلك العربة من ذلك الطريق الذي يقبع منزلنا على حافته تلك العربة مُحملة بالركاب من كل جانب بما فيها من الداخل والخارج أيضاً, كنت أراقب هؤلاء الركاب وهم واقفون علي تلك الحواف العريضة البارزة وفوق سقف العربة حتى أنني أعتقد أن عدد هؤلاء الركاب يتجاوز العشرون راكباً وأتعجب كيف كانت تسير تلك العربة المُتهالكة بكل
هذا العدد الضخم من الركاب متناثرين ما بين باطنها وسقفها وأطرافها
في يوم ما تواردت الأخبار بأن تلك العربة صاحبة اللون الأخضر الزاهي قد تسببت في حادث أليم حيث لم يستطع السائق آنذاك أن يتوقف بها فقفزت عالياً من فوق ذلك الجسر لتسقط في المياه ويموت معها الكثيرون من هؤلاء الركاب وتتناثر أجزائها كأنها قد قررت أن تنتحر فجأة بالرغم من صلابتها التي كنا نعلمها جيداً, عادت العربة الخضراء مٌحملةً هي وما تبقى منها على عربة أخري وقد يأس مالكها بأن يصلحها لأنه تشاءم منها بسبب موت العديد من ركابها أثناء ذلك الحادث أو ربما لإنفاقه الكثير من الأموال على أهل الموتى
تجمعنا نحن الأطفال في ذلك الوقت نتابع تلك العربة التي كنا نشاهدها كل يوم تمر علينا كأنها مثل السفينة الضخمة نُهلل لها وهي تنطلق ولا نرى السائق بداخلها من كثرة الركاب في كل مكان ولكن نرى يديه وهو يٌشير إلينا بالتحية ويطلق النفير المزعج تحية لباقي أهل الشارع, تراصينا جميعاً وعيوننا يملؤها الحزن على العربة ونحن نودعها للمرة الأخيرة حيث وضُعت هي وما تبقي منها في مخزن في الجانب المٌقابل لمنزلنا لتبقى أسيرة بداخله تحمل حكاياتها وأسرارها للأبد داخل هذا المخزن, كانت لحظة حزينة ونحن نودعها الوداع الأخير ونتذكرها وهي تمرح على الطريق كأنها سعيدة مُنطلقة بنشوة ابتساماتنا وضحكاتنا رقصاتنا الطفولية ابتهاجا لها, من الآن فصاعداً لن نراها مّرة أخرى, سوف تُهمل للأبد ونتناسى كل شيء عنها ماعدا بعض الذكريات المُتناثرة بداخل أغوارنا نتذكرها أحياناً نتناساها كثيراً, أحياناَ عندما أكون ماراً بذلك المخزن أتذكرها وأتذكر نفيرها القوي فالأيام تمر والكل قد لا يتذكرها بعد الآن, مر عام أو أكثر وبدأت الشائعات تنتشر ما بين همسات و أقاويل في الخفاء عن تلك العربة الخضراء.
البعض يقول أنها مسكونة بأشباح من ماتوا بداخلها وأن نفيرها مازال يطلق صرخات الاستغاثة حتى الآن كأنها كل ليلة تُعيد ذلك المشهد المؤلم من جديد, كل ليلة كأنها أنشودة أو مسرحية وأبطالها أشباح من
ماتوا بداخلها.
آنذاك كنت أتساءل كيف هذا ولماذا يحدث هذا الآن بعد مرور كل هذا الوقت ؟
الجميع ينكر ذلك ويتجنب الحديث عما يدور بداخل هذا المخزن المٌغلق من سنوات حتى أنني توجهت لجاري هذا أحاول أن أفهم ماذا يحدث داخل ذلك المخزن وماذا حدث لتلك العربة الخضراء هل هي تستغيث من الوحدة والإهمال من الجميع لها بما فيهم نحن الأطفال, ربما رغبت تلك العربة أن تعبر عن وجودها بذلك النفير المزعج حتى تسترعي انتباه الأخريين.
في ليلة ما وأنا في سبات عميق في تلك الغرفة التي تواجه ذلك المخزن الذي يحتوي على بقايا العربة الخضراء فإذا بنفير العربية ينطلق مدوياً بصوت يشبه صوت الاستغاثة حتى أنني استيقظت من سباتي هذا وأنا منزعجاً حيث نهضت وتلصصت بسمعي منتظراً هذا النفير مّرة أٌخري حتى فزعني مّرة أخري ثم مّرة ثالثة وأنا أكاد أموت فزعاً ورعباً من ذلك النفير حتى تخيلتها وهي تنطلق مُسرعة مٌحطمة باب ذلك المخزن لتطير في الهواء حتى أجدها أمام عيني بالقرب من فراشي هذا كما كانت هي في سابق عهدها بلونها الأخضر الزاهي تلك الكشافات الدائرية بزجاجها السميك اللامع ترسل لي شعورها بأنني تخليت عنها مثل باقي من تخلوا عنها من قبل وتركوها وحيدة في ذلك المخزن
لجأت إلي ذلك الغطاء الذي كنت قد قذفته بعيداً بقدمي أثناء نومي لكي اختبأ داخل طياته ومازال النفير المُزعج ينطلق بين الحين والآخر حتى بزوغ الفجر, في تلك الليلة قد جفاني النوم وأصبح عصياً على جفوني واستمريت عيناي محدقة نحو سقف الغرفة و أذناي على أهبة الاستعداد لسماع أي صوت جديد صادر من ذلك المخزن
في الصباح الباكر ذهبت مُسرعاً إلي جيراني هؤلاء وأخبرتهم بكل حدة وانفعال أنها ليست شائعات بل حقيقة وقد سمعت ذلك النفير بكل وضوح في تلك الليلة, الكل صامت ولا يرغب في أن يتحدث في هذا الشأن ولكن بعد مرور عدة أيام وجدنا عربة ما مجهولة بالنسبة لنا ومالك العربة الملعونة يفتح باب المخزن بعد كل تلك الفترة, فها نحن سوف نرى العربة الخضراء مّرة أخرى أو على الأقل ما تبقى منها, كنا نتزاحم جميعاً لنشاهدها للمّرة الأخيرة وهي تغادر المكان للأبد, كنت أتمني أن أتلمس ذلك النفير المزعج لكي أمنحها ذلك الشعور بأنني أشعر بها وبمن يصرخون بداخلها, كنت أعلم أن تلك الفرقة المسرحية من الأشباح سوف يسدل الستار الآن عن تلك المسرحية للأبد, لن أسمعها من جديد, العربة المجهولة تحمل بقايا العربة الخضراء ونحن نقف في وداعها لآخر مّرة ونتابع العربة وهي
تسير وتختفي عن أنظارنا وهي تحمل العربة الخضراء تمضي بنا الحياة وتبقى بعض ذكرياتها بداخلنا نحن أطفال الحي
انتهت
بقلم الكاتب الدكتور : محمد عبدالتواب
إرسال تعليق