الشخصية المصرية والحقيقة الغائبة |
أحيانا
عندما يطلب أحد أصدقائي من الأوروبيين أو الأمريكان مشورتي عندما ينوي الذهاب إلى مصر
فلا أجد ما أقوله سوى إن يهتم بالتقرب من العامة والبسطاء وأن يعيش معهم لحظات بين
شوارعها القديمة يحاول أن يفهم حكاياتهم، يجلس بينهم علي المقاهي القديمة فمصر عظمتها
ليست في آثارها أو شواطئها بل في الشخصية المصرية التي ربما قد تعرضت لبعض الهزات والتي
أثرت في الإطار الخارجي لها لكن ستبقى لها رونقها وسحرها الخاص بها، هكذا يكتب التاريخ
دائما عنها وكيف ذابت كل الحضارات التي رغبت في السيطرة عليها في بوتقة حضارتها، حتى
من أراد أن يحتلها ويغير من شكل أو مضمون تلك الشخصية مثل الفاطميين ومن بعدهم العثمانيين
أو الفرنسيين أو حتى الإنجليز فشلوا في ذلك بل انصهروا في جنبات.
حتى
الديانات السماوية لها رونقها المختلف داخل المساجد والكنائس كذلك المعابد اليهودية
منذ وقت قريب أيضا عندما تسأل أي يهودي مصري يعيش بعيدا عنها تجده يدمع ويتذكر حنينه
لمصر ورغبته في العودة مرة أخرى إليها والموت في ترابها رغم الصراع الناشب بيننا وبينهم
بسبب اغتصاب أرض فلسطين العربية، حتى إخواننا العرب عندما تتحدث معهم عن مصر والمصريين
مهما أظهروا من أشياء سيئة صادفوها في مصر لكنهم يعشقونها ويتمنون الرجوع إليها دائما،
فالغالبية من المصريين تعتمد وقيمهم وسلوكهم على مبادئ وأساسيات أديانهم سواء كانت
الإسلام أو المسيحية، فالمصريون لديهم شيء يشبه الرادار الداخلي يبني تعاملهم على أساس
الرغبة الحسنة والصادقة لمن يتعاملون معهم وهم أذكياء في تلك النقطة فربما للحظة تستطيع
أن تخدعهم ولكنهم يكتشفون الأمر سريعا والنتيجة تكون كارثية لأنهم يتفاعلون من خلال
عاطفتهم قبل عقولهم، بالتالي يملكون القدرة علي أن يكتشفوا من يحب مصر أو من يضمر الشر
لبلادهم، حتى إذا كنت غريبا مجرد عابر سبيل ولست من أهل تلك المنطقة أو الحي ستجد من
يقدم لك العون والمساعدة إذا شعر أنك تحتاجها وستجد من يدافع عنك ويفتح لك منزله لاستقبالك
ومحاولة حل مشكلتك وهذه طبيعة مصرية أصيلة حتى لو لم نكن نشعر بها في بعض الأحيان لكنها
سوف تبقى داخل الشخصية المصرية.
للأسف
كثير من الناس لا يمكن أن يشعروا بقيمة تلك الشخصية المصرية الفريدة في مضمونها على
الرغم من كم التناقضات الداخلية حيث
إن إطارها
يمنحها اختلافا عن الشخصيات التي يمكن أن تصادفها في بلدان أخرى، فالكثير منا قد زار
الكثير من البلدان ويعرف معنى أنك تقع في مشكلة أو تأخرت في العودة من مكان ما أثناء
الليل وأنك من السهولة تتعرض للقتل هناك لأتفه الأسباب أو تجد امرأة تتعرض لسوء دون
أن يحرك ذلك نخوة الرجولة بداخلهم مثل المصريين الذين نجد الكثير منهم يتعرض للقتل
من أجل الحفاظ على شرف امرأة لا يعرفها ولم يقابلها من قبل.
الشخصية
المصرية في معظم الأحيان لها مكونات كثيرة مثل الشهامة والكرم فعند زيارة الأزقة القديمة
سترى الناس مثل صفحات من كتب التاريخ تحتوي الكثير من المشاهد التاريخية الحية التي
تلمسها وتشعر بها، فعندما تجلس بين الناس في المقاهي القديمة سوف تستمتع بحكايات وأساطير
كثيرة عن الأماكن ربما تعود إلى آلاف السنين يرويها البسطاء دون أن يدركوا أساسها التاريخي،
علي تلك المقاهي سوف تجد النمط السائد هو السخرية من كل شيء حتى من أنفسهم بطريقة صريحة
أو بطريقة النقد اللاذع غير مباشر من خلال العديد من النكات والأفيهات حيث يضحك عليها
البسطاء لأنها بسيطة مثلهم، وأنهم سعداء على الرغم من أن معظم المصريين يعانون من ظروف
اقتصادية طاحنة وخاصة في السنوات الأخيرة وعندما يجدون شخصا غير مصري بينهم سوف تجدهم
سعداء بوجود هذا الشخص لأنهم يحبون الغرباء ويكرمونهم.
رؤية في الشخصية المصرية
الشيء
الأكثر جمالا في مصر هو شيء ليس ملموسا بل هو شعور تدركه عند قدومك إلى مصر، بالطبع
لن تجده في انتظارك عند لحظة أن تطأ قدماك ترابها، بل إحساس يتولد بداخلك ينمو كلما
قضيت وقتا أكثر بين أهلها، ربما يكون متقلبا ما بين الرضا والغضب، ما بين السعادة والحزن،
أشياء كثيرة تمتزج مع بعضها البعض لا تستطيع أن تحددها بدقة ولكن يمكنك أن تعتبرها
حالة تتجول داخل أجوائها.
أعتقد
أن السر ليس في آثارها أو في شواطئها الساحرة بل يكمن في شوارعها وبين جدران المنازل
القديمة المتهالكة أحيانا برائحتها التاريخية المميزة.
بين
أحجار أرصفة الأزقة التي ما زالت تحاول أن تصمد رغم إهمال الجميع لها، بين وجوه عابسة
وأحيانا مبتسمة رغم كل شيء، أهل المحروسة عبر كل العصور لم يتغير شيء بداخلهم ربما
لأن أحلامهم وأمنياتهم بسيطة جدا ولأن حياتهم أيضا بسيطة مثل أحلامهم، دائما تجدهم
يحملون الحزن الدفين في قلوبهم وعيونهم كأنه ميراث قديم تتوارثه الأجيال، كأنه جزء
أصيل في وجدان كل مصري لما يري ذاته سوي من خلال تلك النظرة الحزينة على الرغم من أن
الابتسامات تجد طريقها سريعا على شفاههم، كأن في لحظات قد تبدل كل شيء ربما لأن كل
ردود أفعالهم هي عاطفية وهذه هي عبقرية الشخصية المصرية، إذن نستطيع القول هنا إن القاعدة
الأساسية لتركيبة المصرية أن ردود الأفعال منبثقة من أحاسيسهم ومشاعرهم ومعتقداتهم
التي نشأت على أسس دينية منذ بداية الدولة القديمة في الحضارة المصرية وحتى الفتح الإسلامي
كشق ديني وأيضا كل التجارب من الشقاء والكد والتعب في مسيرة حياتهم والصراع المستمر
مع الحياة كشق إنساني.
أعتقد
أنني أستطيع أن أجزم أن ردود أفعالهم هي عاطفية جدا في المقام الأول نظرا لأنهم يعيشون
مع مشاعرهم الدافئة لحظة بلحظة بين أصدقائهم وعائلاتهم، المصري يستطيع أن يصنع السعادة
من تلك الأشياء البسيطة التي تمر به خلال حياته، يستطيع أن يقتنص تلك اللحظة العابرة
من السعادة ليبدد تلك السحب الملبدة بالحزن في سمائه دائما، مشاعره دائما مثل الرياح
تدفعه نحو المنطقة الدافئة من حياته نحو أسرته وأصدقائه ومن يحبهم في حياته وهذا ما
يصنع الاختلاف والفرق بينهم وبين أي شعب آخر في أي بلد من البلدان الأخرى.
يظن
الكثير وخاصة الذين يعيشون في البلاد الأوروبية أنهم يستطيعون فهم النمط الحياتي للشخصية
المصرية من خلال كتب المستشرقين أو بعض الآراء التي تتحدث عن مضمون الشخصية المصرية
ولكن هذا في واقع الأمر صعب ليس فقط للواقع المصري بل للواقع العربي أجمع، الشخصية
الأوروبية مختلفة تماما عن الشخصية المصرية أو العربية التي تحكمها عوامل كثيرة متداخلة
ومتشابكة، لذلك الكثير من المستشرقين في القرون الماضية اكتشفوا تلك الحقيقة بأن القراءة
شيء وتعايش الواقع نفسه شيء آخر، فالكثير يظن أن الشخصية المصرية سلسلة من الانفعالات
السطحية ويمكن توقع ردود أفعالها بسهولة، لكن في الواقع هذا صعبا يحتاج منك تكوين خبرتك
الخاصة بك من خلال التعامل مع البسطاء وكافة الفئات المتنوعة في مصر سواء جغرافيا أو
ثقافيا.
التغيرات في الأسرة المصرية قديماً وحديثاً
الأسرة ذلك الجانب المهم في الشخصية المصرية والتي أدرك الإنسان
المصري مدى أهميتها في بناء المجتمع والتي هي القاعدة الأساسية لبناء الحضارة، ففي
عصر القوة والازدهار نجد ما يشير إلى الاهتمام ببناء الأسرة وتقوية دعائم الأخلاق والمساواة
بين الزوج والزوجة والابتعاد عن الفجور والفسق واستباحة الموبقات كما كان يحدث في عصور
الاضمحلال والضعف وهنالك الكثير من الأمثلة علي ذلك نذكرها لنرى الشق الأخلاقي والديني
الذي يشكل العصب الرئيسي في الشخصية المصرية قبل ظهور الديانات السماوية على أرض مصر.
من نصائح
الفيلسوف المصري "آني" لابنه "خنسو – حتب" قائلا له: لا تترك قلبك
ألعوبة في الميل نحو النساء فإن ذلك يذهب بقوة دينك وعلو شرفك وأدب نفسك، فالمرأة بما
أوتيت من الدهاء وتأثير الأنوثة من أقوى حبائل الشيطان وهي كالبحر العميق الذي لا يرحم
من استهواه إلي قراره وإذا كتبت إليك امرأة عن غياب زوجها واستدعتك لتتردد عليها لهذا
السبب فاعلم أنها تنصب لك شباك الهلاك لأن النفس أمارة بالسوء والموبقات طريق سحيق
إلى الوبال وغائلة المرأة لا تؤمن في حدتها الشهوانية.
ومن
نصائح الحكيم "أمنت – بن – كالتخت" يقول: لا ترسل نظراتك إلي جارتك فإن إطلاق
النظر إليها يجعلك كالذئب في مكره، لأن للجوار حرمة يجب الاحتفاظ بها.
ومن
بردية "ليدن" الحكمة التالية التي تقول: لا تجعل قلبك يتعلق بحب امرأة أجنبية
فتفسد حياتك وتؤدي بك إلى المهالك فأجمل الصفات للمرأة الجميلة توقدا العقل الزاجر
لها عن المنكرات والمرأة العاقلة تكون سببا لسعادة زوجها والشريرة تعرضه للفقر الدائم
ونكد الحياة من تلك الحكم والنصائح نرى أن نظرة المصري القديم للمرأة والحياة الاجتماعية
بما فيها تجنب الفواحش كما هي منذ آلاف السنين لم تتغير في شيء مما يدعونا أن نرى الجزء
الديني والاجتماعي جليا في ردود أفعالها لذلك فالكثير من الشباب في مصر رغم كل المعوقات
والمشاكل التي تواجههم من أجل الزواج لكنهم يصرون على الزواج لبناء أسرة حقيقية مليئة
بالمشاعر الدافئة كما جاء في نصائح القدماء، وهذا هو الجانب الاجتماعي في الشخصية المصرية
والتي يعود إلى بداية الحضارة، المصري القديم منذ فجر التاريخ يقدر الأسرة والزوجة
فالغالبية كان يفضل أن تكون له زوجة واحدة ومنزل واحد أساسه الحب والتعاون والتاريخ
المصري يحتوي على الكثير من النصائح المتبادلة ما بين الأب وأولاده والزوج وزوجته وهنالك
العديد من البرديات التي تخبرنا بذلك مثلما ذكرنا سابقا، والتغيرات التي تحدث في المجتمع
تكون مجرد تغيرات قشرية نتيجة تحولات فكرية أو اندفاع نحو تقليد أعمى نتيجة سطحية المستوى
الثقافي لدى الغالبية، فكلما ارتقى المجتمع ثقافيا وتعليميا أصبح أركان المجتمع من
أسرة واعتدال ديني وأخلاقي أساس الحضارة بمعناها الشامل.
وطن ما بين عالم الثقافة وعالم ما وراء الطبيعة
من المؤسف في تلك
الأيام أن نري غالبية الشباب لا يدركون شيئا عن تاريخهم أو ما مر بوطنهم في كل
العصور ولا يدركون كمْ كان أجدادنا عظماء ولقد أبهروا العالم بأسره بما شيدوه وبما
توصلوا إليه من معارف الحياة وأسرارها.
فكلمة الانتماء تبدأ من فكرة الانتماء للأرض وللتاريخ
الأجداد والشعور بقيمة ما توارثناه سواء شيء ملموس أو غير ملموس مثل تراثنا الشعبي
وأساطيرنا، فمن جاء من الغرب من المستشرقين أو الرحالة أسرهم ذلك السحر والغموض
الذي مزج ما بين الواقع والخيال وجعلهم يقرون بحقيقة واحدة أن الحضارة الإنسانية
تتلخص في تلك الحضارة التي بزغ فجرها علي شاطئ ذلك النهر العظيم، منذ أكثر من
ثمانية عشر ألف عام عندما تأسس أول مجتمع إنساني حيث استقر الإنسان وبدأ في تأسيس
بداية الحضارة المتعارف عليها مع بداية المعرفة بالزراعة.
على الرغم من كل تلك الشواهد التي ما زالت باقية والحكايات
التي نجدها في صفحات التاريخ يبقي شيء أعظم وهو الشخصية المصرية والتي هي مزيج من كل
شيء، من الأسطورة والواقع، العقيدة وحكايات ما وراء الطبيعة، في كل ما ورثته عبر مئات
الأجيال التي تتابعت وخلفت بداخل كل منا شيئا لا ندركه بعقولنا بل أفعالنا ومشاعرنا،
فالشخصية المصرية عبر مراحل التاريخ القديم حتى يومنا هذا لها وجهان لعملة واحدة، الوجه
الأول وهو الفئة الثقافية بمدلول الكلمة والتي ترتبط بالواقعية وإدراك العلم بكل ما
يستميله من براهين لما يحدث، والوجه الآخر هو الفئة البسيطة والتي تعتقد في أساطيرها
الشعبية بما تشمله من أبعاد تقع ما وراء الطبيعة تعتمد علي الجانب الغامض في حياة البسطاء
ما بين السحر وعالم الجان والأشياء الخارقة التي لا يعترف بها الجانب الآخر من الشخصية
المصرية.
فكلا الوجهين يبرز إحداهما علي حساب الآخر لذلك نجد الجانب
الثقافي يبرز في عصور القوة والازدهار الحضاري مرورا بالدولة القديمة وعصر بناة الأهرام
حيث كان الكهنة يمتلكون نواصي تلك الفئة مرورا بالعصور الإسلامية وخاصة الدولة العباسية
وفي العصر الحديث في عهد الوالي محمد علي باشا والخديوي إسماعيل أيضا. أما الوجه الآخر
فنجده يزدهر في فترات الضعف والاضمحلال كما حدث مع نهايات الدولة الحديثة في الحضارة
المصرية القديمة وأثناء فترة احتلال الفرس لمصر والذي فتح آفاق لمفهوم السحر بمعناه
الشعبي، كذلك أيضا في نهاية عهد المماليك والدولة العثمانية.
فالتراث الشعبي والتاريخ أيضا يحتوي علي الكثير من الحكايات
العجيبة والعادات التي ترتبط بهذا النسق من الإيمان بما يجري في عالم ما وراء الطبيعة
والذي ربما هو مزيج من الدجل والشعوذة ولكننا لو بحثنا عن أصول تلك الموروثات والمعتقدات
لوجدنا لها أساسا من التاريخ، فالتاريخ المصري يتميز بأنه مثير للخيال والغموض في كل
عصوره وربما يكون هذا هو السر في شغف المؤرخين وعلماء الآثار بالتاريخ المصري بأكمله،
هكذا هي البداية التي يمكن أن نتعرف من خلالها علي بعض ملامح الشخصية المصرية من وجهة
نظري.
بقلم الكاتب الدكتور
محمد عبدالتواب
( الكلمات المفتاحية )
Post a Comment