حكايات الكلب جاك

حكايات الكلب جاك
حكايات الكلب جاك

في طفولتنا نحتفظ ببعض الذكريات التي قد تكون مثل النقوش الفرعونية الصامدة التي تعيش بداخلنا حتى الموت ونتذكرها دائماً بسبب الحنين المطلق لها فلدي الكثير من الذكريات ربما تعود إلى فترة بدايات طفولتي والتي أتذكرها جيداً كأنها حدثت بالأمس وكلما تذكرتها تذكرت الابتسامة والضحكة التي افتقدها كثيراً في تلك الأيام مثل حكايتي مع أول وآخر كلب في حياتي.

كنت في بداية المرحلة الابتدائية وكان للبيت فناء خلفي به عدة حجرات وكل حجرة تمثل شيء أساسي في حياة والدتي مثل حجرة الغسيل وحجرة الفرن الطيني وكان في منتصف الفناء شجرة توت رائعة ضخمة كبيرة محملة بالكثير من التوت بلونه الأحمر الداكن، كانت تلك الشجرة هي منزلي وسكني الدائم حيث كنت أقضي معظم وقتي أتسلقها لكي ألتقط التوت وأكلة دون غسيل بما عليه من أتربة حتى كنت أحيانا أشعر أنني أكل الغبار والتراب أكثر من التوت نفسه، كمْ تمزقت ثيابي التي كنت أرتديها من أغصان تلك الشجرة العظيمة وأيضا من كثرة السقوط الحر المتكرر من تلك الشجرة حتى أن أمي كانت تلقبني بقرد الشجرة وتندب حظها أنها قد أنجبت طفلاً أهبل أو ربما أنها في الحمل قد ترحمت علي قرد أو شجرة موز مثلاً.

في تلك الفترة كانت هنالك فتاة تساعد أمي في المنزل تدعي (حلاوتهم) بالرغم أن اسمها يدل على علاقتها الوثيقة بالجمال الباهر والفاتن إلا أن جمالها جمالاً أفريقياً أصيلاً لم يعرف اللون الأبيض طريقه إلي بشرتها في يوم من الأيام، كذلك شعرها أحيانا كنا نستخدمه كأداة لتنظيف الأواني والحقيقة أنه كان من النوع الممتاز، في الحقيقة كانت تحبني وتدللني كثيرا وتلبي أوامري دون أن تعرف أمي أي شيء عن ذلك لأنني كنت أتسكع طوال الوقت مثل حياة البوهيميين أو ربما يمكنك القول متشرد من الدرجة الأولى.

 ليست حلاوتهم فقط هي التي كانت تلازمني بل كل أخواتها البنات كانوا يأتون إلي بيتنا لمساعدة أمي لأنهم كانوا يشعرون أن أمي مثل الأخت الكبرى بالنسبة لهن فكنت في صغري أرى الكثير من النساء داخل بيتنا من بينهن حلاوتهم وخالاتي اللاتي كانوا تقريبا في نفس المرحلة العمرية والكل يقدر دور أمي ويجلها لأنها كانت صاحبة ذكاء ودهاء وشخصية قوية لا غبار عليها، في يوم من الأيام أتت حلاوتهم إلي المنزل ومعها ضيف جديد غريب عن المنزل عبارة عن كلب صغير أبيض اللون هدية لي لكي ألهو به وامنحه حنان الأب الذي فقده منذ الصغر، لكن والدتي رفضت ذلك رفضاً باتاً ولكن أخبرتها حلاوتهم أن هذا الكلب من عائلة ملكية عريقة صاحبة جاه ومال وأن هذا الكلب كان ولي العهد وأن أختها قد سرقته لكي تحميه من أعدائه ولكن والدتي أصرت على رفضها وأنا صممت أن أحتفظ بولي العهد هذا ربما لإحساسي بأنني أيضا من عائلة ملكية عريقة وأنني اختطفت منذ الصغر مثل هذا الكلب وربما أعود يوما ما إلي مملكتي مع هذا الكلب وأتنكر لكل هؤلاء الحثالة وأتذكر ما فعلوه معي في طفولتي من حرمان من اللهو والتسكع في الشوارع طوال الوقت.

كان دائماً لدي هذا الشعور أنني لا أنتمي إلى تلك الأسرة وأنني صاحب شأناً عظيماً وكنت دائماً أخبر أصدقائي أنني في الأصل ليس مصرياً بل ألماني المولد والجنسية وأنني أمتلك شعرا ذهبي اللون وعيوناً زرقاء مثل لون البحر وامتد هذا الشعور معي لفترة طويلة ربما لأنني لم أكن أنظر في المرآة كثيراً أو ربما أن هذا التغيير سببه أنني عندما أعاود الرحيل إلي ألمانيا سوف أسترد شعر الذهبي ولوني الأبيض وعيوني الزرقاء وأن تلك التغييرات التي حدثت ربما بسبب أنني كنت أكرهه الاستحمام والنظافة عموماً حيث كان بيني وبينه ثأر ولم أكن أستحم سوي في الأعياد فقط بسبب الثياب الجديدة ومن أجل الحصول علي العيدية، كنت مقتنعاً تماماً بتلك النظرية حتى عندما قررت في يوم ما أن استحم لمدة أسبوع كامل لكي أستعيد رونقي وجمالي الأوروبي مرة أخرى وهنا كانت الطامة الكبرى فبرغم كل تلك المعاناة والعذاب الذي عانيت منه خلال هذا الأسبوع فأنا لم أجد تغيراً في شيء، نفس الملامح الصعيدية الرائعة المتضخمة في بعض الأجزاء غير المتناسقة تماماً كأن والدتي قد استعارتها من ملامح إخوتي وصنعت مني هذا الفتي لكنني في نهاية الأمر أقنعت نفسي بأن ملامحي الحقيقة هي أوروبية المنشأ.

بعد مباحثات متعثرة أعتقد أن مباحثات اليهود والفلسطينيين كانت أسهل بكثير من تلك المباحثات مع أمي حيث في بداية الأمر خيرتني ما بين أن أعيش أنا داخل المنزل والكلب خارج المنزل أو العكس الكلب داخل المنزل وأنا خارج المنزل فكان اختياري أن أكون أنا والكلب داخل المنزل والدتي خارج المنزل ولكن بعد مفاوضات عنيفة انتهت بثيابي ممزقة وجنتي ملتهبتين من كثرة مصافحة والدتي لهما وبكائي الشديد من آثر التعذيب اتفقنا أن هذا الكلب يبقي في الفناء ولا يدخل المنزل ولو حدث هذا مصيرنا نحن الأثنين الرجم بالشباشب حتى الثمالة.

أنا أعلم جيداً أن أمي لن ترحمني وتنتظر تلك اللحظة بفارغ الصبر لكي تطردنا نحن الأثنين أنا وجاك خارج البيت لأنها غير مقتنعة بالمرة بوجود كلب أو بوجودي أنا أيضا في المنزل.

كان صغير الحجم ما زال رضيع لونه أبيض ببقع صفراء صغيرة متناثرة علي أجزاء من جسده النحيل، كان يبكي طوال الوقت لشعوره بالغربة وإحساسه أن مستقبله قد ضاع منذ البداية عندما علم أنه سوف يعيش مع صبي مشرد من عامة الشعب صعلوك يتسلق الشجرة طوال اليوم يقتات علي حبات التوت الممزوجة بالغبار وأشياء أخرى، يأكلها وملامح البلاهة ترتسم على ملامحه، طفل مثلي حافي القدمين ويبدو من ثيابه أنه متشرد طوال اليوم.

مغامرة في السفارة الإسرائيلية

 

عندما قذفت الكرة له أخذ يلعب بها كأنه ملك يلهو مع عامة الشعب وشعرت أن هذا الكلب ربما يكون أذكي من كثير من أصدقائي فأطلقت عليه لقب (جاك) و واجهتني أول مشكلة مع جاك وهي ما نوعية الغذاء المناسب له؟!!... فسألت حلاوتهم سؤالا غبيا ساذجا من طفل أبله قائل:

ــ حلاوتهم هو الكلب بيحب ساندويتشات الحلاوة ولا الجبنة بجرجير مع شوية مخلل؟

تطلعت حلاوتهم لي لبرهة ثم قالت لي:

ــ بذمتك فيه كلب صغير ابن ناس يأكل ساندويتشات جبنة ومخلل!!

نظرت لها بتعجب شديد قائل:

ــ أوعي تقولين عاوز ساندويتشات بطنجان وعجة مثلاً !!

 وعندما لم تجد أن هنالك فرصية بأنني أفكر مثل باقي البشر وأنها ندمت للحظات أنها أحضرت هذا الكلب ليعيش مع طفل يمتاز بغباء يقترب كثيرا من غباء جحش صغير، لذلك في نهاية الأمر أخبرتني أنه ما زال صغيرا ويحتاج إلى لبن فقط، هنا كانت المشكلة كيف أقنع أمي أن تعتبر هذا الجرو فرداً من العائلة لكي تمنحه القليل من الطعام ولو علي حساب والدي أو تشتري لبناً من أجله لأن الاتفاق لم يشمل تلك المصاريف الجديدة، في الواقع لم أستطع أن أتجرأ وأصارح والدتي في ذلك الأمر، كنت ما زلت صغيراً لم أتحمل مسؤولية أي شيء من قبل وخاصة حيواناً صغيراً رضيعاً لا حول له ولا قوة، كل ما جال بخاطري هو فكرة الامتلاك في حد ذاتها مثل باقي ألعابي، لكن في لحظة تملكتني الجرأة والجسارة رغم كل هذا الرعب الكامن بداخلي وهمست بداخلي حتي لا تنصت والدتي إلي هذا الحوار الجريء بأنني من الآن فصاعداً فأنا المسؤول عنه في كل شيء، أنا وليس شخص آخر معي.

تفتق ذهني بفكرة جهنمية عندما رأيت برامي الأرز الفخاري والذي يمتلئ حتى الثمالة باللبن وتعده والدتي للغذاء، أسرعت مهرولاً باستبدال اللبن بالماء وأخذت اللبن لجاك العظيم قبل أن تشعر والدتي بفداحة الكارثة التي قمت بها للتو، تجمعنا وقت الغذاء ووجدت والدتي برام الأرز مثل العجينة البيضاء أو بمعني أصح مثل الغراء الأبيض وأتذكر أن أخي الأكبر لم يستطع أن يفتح فمه لمدة يومين بسبب ذلك الأرز العجيب وتسببت في مشكلة عظيمة حيث إننا لم نأكل يومها وفي تلك اللحظة تصنعت دور الملاك الصغيرة وأعلنت تعاطفي مع والدتي ضد والدي وإخوتي وأنهم يجب أن يأكلوا هذا الأرز تضامنا مع والدتي وأكلت هذا الأرز علي مضض وأنا أبتسم لوالدتي وأضحك ضحكات هيستيرية ووالدتي تظن أنني سعيد بهذا الأرز وأنا في واقع الأمر أتألم بشدة من معدتي التي كانت علي وشك الانهيار.

عاود تكرار تلك الجريمة لعدة أيام بدم بارد وفي كل يوم أعلن تضامني مع أمي حتى لا تشعر أنني الملاك الصغير وراء كل هذه الخسائر اليومية والمعارك الطاحنة التي كانت تحدث بين أمي وأبي وقد وصلت المعارك في نهاية الأمر إلي التراشق بالأطباق وسكاكين من حولي وقت الغذاء كل يوم.

أتذكر أنهم قد أخبروني قبل أن يغمي علي أن هنالك فردة حذاء قد استقرت في وجهي حيث كانت قذيفة قوية قد انطلقت بقوة صوب والدتي ولكنها تحاشتها بكل مهارة وأنا أراقبها متعجباً من قدرتها علي المناورة ولم أتخيل أن والدتي سوف تتركني لمصيري المجهول مع هذه الفردة الغامضة.

جاءت اللحظة الحاسمة عندما شاهدتني أمي اضع اللبن لجاك العظيم وتنبهت أن ملاكها الصغير ليس إلا شيطاناً صغيراً ماكراً قد ضبط متلبساً بالدليل القاطع الذي لا يقبل الشك وهو اللبن المهرب إلي جاك، بالفعل تم تنفيذ العقوبة حيث تم تعليقي علي شجرة التوت بجوار جاك العظيم حتي أكون عبرة لأخوتي، في الواقع لم أشعر بخيبة الأمل بل وجدها فرصة سانحة ورائعة لكي أقضي وقتا أكبر مع كلبي وصديقي العظيم المتماسك وأنا معلق من أرجلي ووجهي يكاد يلمس الأرض بجوار جاك العظيم، كانت فرصة عظيمة لجاك العظيم حيث امتلأ وجهي من لعابه لكي يظهر مدي حبه لي حتي شعرت أنني أصبحت كلب مثله وليس صاحبه.

مرت الأيام وكبر جاك وانتقل إلى مرحلة جديدة وهي مرحلة اللحمة، تلك المرحلة بالفعل كانت صعبة للغاية، ربما لأنني واجهت مشكلة كيف يتسنى لي توفير قطعة لحم كافية له كل يوم.

في أول يوم وجدت أبي يضع قطعة لحم في الطبق الذي أمامه أثناء وقت الغداء وتخيلت صورة جاك العظيم وهو يئن من الجوع ووالدي يستمتع بتلك القطعة من اللحم بدلا منه.

أدركت حينها مدى ظلم الإنسان لأخيه الحيوان فقررت الاستيلاء علي تلك القطعة مهما كلفني الأمر من أمام والدي، نظرت إليه قائلا:

بابا أجري بسرعة... المطبخ مولع والنار في كل مكان فهرع والدي نحو المطبخ وأنا قمت مسرعاً بخطف قطعة اللحم وهربت مسرعاً نحو جاك العظيم، كنت أتخيل أن العقاب سوف يكون تعليقا فقط على شجرة التوت ولكن الموضوع تطور حتى أنني لم أستطع أن أتحرك من على الفراش من كثرة الضربات التي تلقيتها كأنني كنت في حضن قطار يسير بسرعة الصوت، هم أخبروني بذلك بعد يومين من تلك المعركة التي خضها بكل بسالة مع والدي حيث لم أشعر بشيء من بعد أول فردة حذاء صاروخية تلقيتها في قفاي أثناء هروبي من والدي مثل الجدي الذي يحاول أن يهرب من الجزار قبل ذبحه قررت أن أتخذ طريقا آخر لإطعام جاك أفضل من الصدام اليومي مع والدي حيث كنا نسير سوياً كل يوم نتسول من محال الجزارة من أجل بعض العظم حيث صرت معروفا لدى الجميع بالصبي الذي يجمع العظام، مضت الأيام وصار جاك عظيم بالفعل وأصبح قويا ضخم الجسم مثل الأسد الجسور عظيم الشأن والهيبة.

كنت أفتخر به كثيرا وهو يسير بجواري متفاخرا بنفسه حينئذ أيقنت أن جاك ليس مثل تلك الكلاب الضالة بل بالفعل من سلالة عريقة وعظيمة وكان يحبني حب جم حتى صار يرافقني في كل خطوة.

كان هنالك علاقة خاصة بيننا لا أستطيع أن أصفها ربما نوع خاص من الصداقة أو شيء أكثر من ذلك لكن اليقين لدي الآن بعد كل تلك الأعوام أنني أفتقد تلك الصداقة بشدة.

بدأ العام الدراسي الجديد وهنا بدأت ملامح المشكلة الكبرى التي أعجز عن إيجاد حل لها، جاك العظيم يرافقني مثل ظلي وبالتالي مدير المدرسة ذلك الرجل صاحب الوجه المكفهر العبوس طوال الوقت ذي الملامح القاسية المتبلدة دائماً لا يطيق رؤيتي بأي شكل من الأشكال واعتقد أنه كان دائم الدعاء في كل صلاة بمغادرتي المدرسة والرحيل عنها قبل أن يصاب بأزمة قلبية أو شلل رباعي.

، ربما لأنني كنت من الطلبة المتفوقين جدا بلا منازع في القفز من على سور المدرسة بطريقة لولبية تظهر جينات القرود التي توارثتها جيلا بعد جيل وأيضا تكسير زجاج المدرسة اليومي بسبب مباريات كرة القدم التي كنا نلعبها أثناء الدراسة حيث زملائي يدرسون داخل الفصل وأنا بجوارهم خارج المدرسة منهمك في تلك المباريات ظنا مني أن مهارتي تفوق ماردونا بمراحل كثيرة.

في أول يوم دراسي تبعني جاك العظيم كعادته إلي مدرسة ظنا منه أنه طالب وعليه الحضور مثلي داخل الفصل وتلك هي المشكلة فجاك لم يكن يظن أنه كلب بل إنسان مثلما كنت أظن أنني صبي بمواصفات أمريكية وجاء بالخطأ إلى مصر.

عندما أصبحنا أمام البوابة المدرسية تحدثت مع صديقي جاك العظيم قائلا

ــ جاك حبيب قلبي النها ردة أول يوم مدرسة يا معلم والناظر راجل غلس و بيموت فيه محبة وعشق، أبوس رجلك أنا موش ناقص مشكلة وأجيب أبويا تأني يوم من أولها كده كفاية البلاوي بتاعة السنة اللي فاتت

شعرت في تلك اللحظة أن جاك العظيم قد فهم رسالتي وسوف ينتظرني خارج المدرسة وبالفعل تركته وأنا مطمئن أن بينا اتفاقا جنتل مان ودخلت المدرسة وكلي ثقة في جاك صديقي العزيز.

كنت مفعما بالنشاط والحيوية حيث انتظمت داخل الطابور وصوتي يصدح بالأغاني الوطنية، لم يمض دقائق علي بداية الطابور حتى وجدت جاك العظيم بجواري سعيدا بالطابور وأنه أصبح طالب مثلي في المدرسة وقد بدأ

يندمج ويصبح ينبح ويصدح بصوته المميز مع النشيد الوطني مما لفت انتباه المدرسين ومدير المدرسة صاحب الوجهة البشوش بسبب صوت جاك العظيم وضحكات الطلاب في الطابور الصباحي

لحظات ووجدت مدير المدرسة مثل سوبر مان يطير في الهواء بتلك العصا ليطارد جاك العظيم مما جعل جاك العظيم يجري في كل مكان وأصبحت ضحكات أصدقائي وزملائي أكثر علواً ترج المدرسة رجاً شديداًً من الكوميديا السوداء التي أعيشها في تلك اللحظات الكارثية، أدركت أن جاك يظن أن المدرسة كلها تلهوا معه فصار هو الآخر يحلق في الهواء مثل الفراشة ظننا منه أن الجميع يلهوان معه وخاصة مدير المدرسة.

كان الصراع عجيبا بينهما فعندما يقف جاك العظيم لينبح فيشعر المدير بالخوف والهلع فيهرب تاركا ساقاه للريح فيركض جاك العظيم من ورائه ظننا أن المدير سعيد وفرحا به ويلهو معه أيضا حتى قرر المدير الاستعانة برجل ذي خبرة ليس فقط مع الكلاب بل مع كل الحيوانات التي نكتشفها في مدرستنا الغراء، إنه محمد الأسود تلك الشخصية التي كانت تمتاز بالجنون والهبل بسبب شعره المنقوش ولونه الأسود الداكن ومعرفتنا بأنه فقد عقله أثناء الحرب وأصبح دون عقل منذ تلك اللحظة.

محمد كان كثير الحديث مع نفسه فقط، كنا نجده دائما منكوش الشعر يمسك بمقشة حيث يجوب الفصول لتنظيفها وهو يتحدث مع شخص ما لا نراه، كنا نحاول الابتعاد عنه في أغلب الأحيان لأننا كنا نشعر أنه ملبوس من الجن والعفاريت كما يقول عنه الكبار.

ربما ما حدث له أثناء الحرب ووقوعه في الأسر والمشاهد التي شاهدها جعلته يفقد الكثير من التوازن النفسي بداخله، ظهر محمد الأسود كأنه مصارع الأسود في سيرك محمد الحلو وأنه سوف يقهر جاك العظيم ويلقي الرعب في قلبه فخرج وبيده مقشة متجه إلي جاك العظيم.

ظن جاك أنه قادم ليلهو معه مثل الباقي ولكن عندما قذفه محمد الأسود بأول حجر أدرك جاك العظيم أن هذه المعركة معركة حقيقية ومصيرية في نفس الوقت وقرر الهجوم علي كلا من المدير ومحمد الأسود.

كان المشهد عجيبا حيث وجدنا كلا من المدير ومحمد الأسود يركضان في فناء المدرسة وجاك من ورائهم حتي امسك بتلاليب جلباب محمد الأسود ممزقا ثيابه في حين أن المدير لم يجد حلا سويا أن يطلب مني خروج جاك العظيم إلي خارج المدرسة وإلا سوف يبعث إلي والذي لكي يستلمني أنا والكلب من قسم الشرطة.

ايقنت أن هذا اليوم سوف يكون أول وآخر يوم دراسي لي فقررت أن أخرج بجاك العظيم خارج المدرسة واحاول أن اقنعه أن ينتظرني خارج المدرسة وشعرت أنه ادرك ما يجول بخاطري بأن مستقبلي الدراسي بين قدميه الأربعة الآن فعد إلي المدرسة وتركته وحيدا في الخارج.

لم تمض أكثر من دقائق عند دخولي حجرة الدراسة حتي وجدت جاك العظيم بجواري داخل الفصل لدرجة أنني وجدت المعلمة تصرخ بأعلى صوتها حيث لم اجدها علي الأرض بل قد تسلقت الدولاب الصغير كالقرد المتمرس في ثوان معدودة، لم اتخيل تلك المعلمة الرقيقة التي نتابع خطواتها وهي تتبختر في دلال ووداعة بثيابها الضيقة تلك أن تقفز بتلك السرعة إلي ذلك المكان المرتفع كأن جاك قد تحرش بها واراد اغتصابها.

في ثوان وجدت ناظر المدرسة بداخل الفصل يحدق يمينا ويسارا وعندما وجد جاك العظيم بالداخل يراقب ما تفعله المعلمة وهو يهز ذيله دلاله على السعادة.

امسك السيد مدير المدرسة بزمام السروال وأطلق ساقيه للعنان ثم عاد من خلف الشباك موجها كلماته لي قائلا:

ــ يا أنا يا أنت في المدرسة دي هو ما فيش غيرك في المدرسة دي يا بني أنا لو رفضوني حا يكون بسببك أنت اطلع بره أنت وكلبك المتوحش ضده وها تلي أبوك بكرة عشان أرفدك أنت وأبوك

شعرت بالإحراج والإهانة بين زملائي في الفصل وكل هذا التعنيف موجها لي، كذلك جاك شعر بالإهانة عندما لم يشعر المدير بمشاعره الطفولية وفرحته بأول يوم دراسي له في حياته ومتى رغبته الصادقة في مواصلة الدراسة ككلب متحضر وراق.

خرجت من المدرسة وأنا منكس الرأس لا أعرف ماذا أفعل سوي التسكع في الشوارع حول منزلي لأنني لا أجد مبررا لكي أخبر والذي بما حدث لي في أول يوم دراسي وأنني بريء من كل تلك التهم التي اتهمني بها ذلك الناظر البغيض.

أثناء تسمعين سمعت أذان صلاة الظهر فقررت القيام بواجبي الديني بعد فترة طويلة من الانقطاع عن الصلاة وأقوم بصلاة الظهر داخل الجامع منها اقضي بعض الوقت داخل المسجد وادعي ربنا يهدي والدي ويصدقني أنني بريء من كل تلك التهم الزائفة.

المشكلة هنا تكمن في كيفية إقناع جاك العظيم أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يدخل الجامع معي فنظرت إليه نظرة قاسية قائلا له:

ــ جاك هنا ما فيش هزار دا جامع ربنا كفاية اللي حصل النها ردة في المدرسة، أبويا حا يعلقني من قفاي النها ردة بسببك، كل دا مش مشكلة لكن إلا جامع ربنا ده لا يمكن يحصل أبدا علي جثتي تتدخل الجامع أنا داخل أصلي وادعي ربنا أن علقة النها ردة يكون فيها أربعة غرز بس، خليك هنا ما تتحركش من مكانك أبوس جزمة أبيك يا شيخ

دخلت إلى المسجد وبدأت في الاندماج في الصلاة ومحالة الدعاء بكل الطرق سواء البكاء أو الهمس أو حتى بالصراخ وعندما سجد بوجهي وبدأت في الدعاء ثانية وجدت جاك العظيم يلعق قفايا وكمية لعاب تنهمر علي حيث بدأ يجذبني من أذني لكي ابادله اللعب معه أو ربما ظن أنني نائم فرغب في إيقاظي لكي نلهو سويا، لم تمر ثواني حتي سمعت هرجا ومرج داخل الجامع وأحذية وشباشب تقذف في كل اتجاه وجاك يجري في كل مكان ولا يريد الخروج من المسجد والإمام يهتف بصوت عال قائل:

ــ الله أكبر حي علي الجهاد هبوا يا مسلمين اهجموا علي عدو الله

في الواقع لم اري شيء من كل هذا لأن جزءا كبيرا من المصلين تركوا جاك وظنوا دون قصد أو بقصد أنني المقصود بعدو الله فانهالوا ضرب علي قفايا

حتي أن وجهي كان ملاصقا للأرض طوال الوقت ولم تتح لي الفرصة من مشاهدة ما يجري داخل المسجد وشعرت أن كل هذا الضرب لم يأخذه حمارا في مطلع كوبري من قبل.

كانت نتيجة تلك الموقعة التي كانت داخل المسجد أصابه الكثير من المصليين نتيجة الأحذية المتطايرة والمتبادلة حتي يقال إن سيارة الإسعاف كانت تنقل المصابين وأنا في نهاية الأمر وجدت قفايا أصبح مثل الهضبة المرتفعة نتيجة الضرب المبرح المنهمر عليه بشدة حتي أن سيارة الإسعاف رفضت علاجي أو حتي علاج قفايا الذي لم يكن له ذنب في كل ما حدث داخل المسجد.

ما زلت أشعر بآثار تلك المعركة الحربية حتي الآن بالرغم أن النية كانت سليمة عند دخولي المسجد من أجل التقرب والدعاء لله لكي ينقذني من براثن والذي.

مضت الأيام وقد كبر جاك العظيم وأصبح ناضجا بما يكفي لكي يعتمد علي ذاته في الحصول على الغذاء ومن هنا لاحظت أن سلوكه وتصرفاته قد بدأت بالتغير حيث أصبح يقضي معظم وقته خارج المنزل وأصبح يعتمد علي نفسه في الغذاء بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة وعندما نهرته عن ذلك استمر في سلوكه حتي كانت الصدمة الكبرى عندما وجده في الطريق العام أمام الجميع في وضع غير أخلاقي مع بعض الكلبات المومسات الغانيات الساقطات يلتفتن حوله ينشدون نظرة منه وكلاب الحي لا تستطيع حتي الاقتراب من تلك الحاشية وقد لاحظت تدهورا في صحته البدنية حيث يقضي معظم وقتة في النوم من كثرة المجهود البدني مع تلك الساقطات الغواني.

لم اجد مفر من أن احاول أن أثنيه عن تلك الساقطات وابلغته أنني سوف أبحث له عن كلبة محترمة من بيت عريق يتناسب مع وضعنا الاجتماعي بدلا من الانحراف في الأزقة مع تلك الكلبات الساقطات ولكنه استمر في سلوكه المشين الذي لا يتناسب مع أخلاقي.

على الرغم من تهديداتي له لم يعرني إي انتباه بل ذادت شراسته حيث أصبح قاتل محترف يقاتل الكلاب حتي الموت كأنه فان دام في فيلم لا تراجع ولا استسلام، كمْ من كلاب لقت حتفها بين فكيه نتيجة المحاولة فقط لهز ذيلهم لمعاكسة تلك الكلبات التي كانت تنتظرن دورهن في التقرب من جاك العظيم.

ويذكر في بعض الأساطير والروايات التي تناقلها البعض من أصدقائي أنهم شاهدوا بعض الكلبات الفاتنات السافرات يغمن عليهن من الفرحة والسعادة الغامرة عندما يبدأ جاك في هز ذيله كبداية لفعل الفاحشة بجوار بيتنا الطاهر بيت صاحبه التي كانت أخلاقه يضرب بها المثل في الحي بأكمله، أصبح شرسا لدرجة أنه كان يمنع اي شخص أو كلب يمر بالشارع الخاص بالبيت ماعدا تلك الكلبات الساقطات والتي أصبح جاك بلطجيا بمعني الكلمة من أجلهم وليس من أجلي أنا وهذا ما جعلني اشعر بالمرارة لأن تربيتي له لم تنجح وتدليلي له كان السبب في فساد أخلاقه.

جاك العظيم أصبح قويا وعنيفا لدرجة صرت غير قادر في التحكم في أفعاله مما صار عبء علي الجميع داخل المنزل.

اتذكر يوم لا ينسي في حياتي عندما كان يجلس معي صديقي ابن الجيران يتسامر معي وجاك بجوارنا وكان صديقي يرتعد من الخوف منه كأن فؤاده ينبئه بما سوف يحدث له حتي قرر أن يعود إلي بيته خوفا من جاك، حذرت صديقي الا يركض امامه حتي لا يستفز جاك بل يمشي بخطي بطيئة ثابتة لكي لا يلفت انتباه جاك ويجده قد قفز فوق ظهره ويحدث مال يحمد عقباه لكن صديقي من الخوف لم يستحمل ذلك وبدأ في الركض ظننا منه أنه سوف يفلت من قبضة جاك ولكن جاك لم يمنحه فرصة فركض من ورائه وعاد صديقي إلي منزله فرحا بأنه لم يصبه أذي من جاك ولكن وجد والدته تسأله عن السبب الدماء التي تنهال من مؤخرته فوضع يده علي أردافه فلم يجد الجانب الأيسر بل وجدها في فم جاك يلتهمها بسعادة بالغة، لم يستطع اي طبيب أن يفعل شيء للأرداف صديقي سوي طبيب بيطري اجري له عملية خطيرة وصعبة حيث زرع له مؤخرة عجل صغير بدلا من مؤخرته التي فقدها ومن يومها دائما صديقي يشعر بالحنين عندما يمر باي قطعة زراعية بها برسيم وهذا شيء طبيعي لكونه أصبح جزءا أصيلا من العائلة الحيوانية، ما زال صديقي هذا حتي الآن يتذكر ما فعله جاك العظيم ويتلمس مؤخرته بحزن وشعوره الدفين بالفزع الشديد عندما يمر بجوار مجزر أو حتي محل جزارة.

لم أكن اعلم أن هذه الحادثة سوف تغير مجري حياتي وحياة جاك العظيم بكل تلك القسوة حيث اكتشفت اختفاء جاك دون اي سبب معلوم.

بعد فترة بحثت عنه كثيرا في كل مكان حتي ارشدني صديق لي أنه وجد جاك مقتولا، لم اتحمل منظر جثته وهي ملقاة علي الأرض حيث مات مقتولا نتيجة الغدر حينما قرر أهل صديقي التخلص من جاك بوضع السم داخل قطعة لحم ولأني اعلم أن جاك يبيع أهله من أجل قطعة لحم فسال لعابه عندما رأي تلك القطعة وأكلها وكانت آخر قطعة لحم في حياته، جاك ضحي بحياته من أجل قطعة لحمة وهذا درس وعبرة لكل كلب أن يفكر ألف مرة قبل أن يأكل أي قطعة لحم من يد غريبة.

ارقد في سلام يا جاك العظيم فقد عشت بطلي مهياسا ومت بسبب الطفاسة ولكن الآن قصتك سوف تعيش للأبد وأعداءك سوف ينساهم التاريخ وبالذات هذا الصبي الذي التهمت ردفه بالهناء والشفاء.
                                                                                انتهت
                                                                 بقلم الكاتب الدكتور
                                                                    محمد عبدالتواب 

هيئة الحساب والعقاب الدينية في مصر

( الكلمات المفتاحية )

قصص مضحكة جدا قصص مضحكة واقعية قصة عربية مضحكة قصص كوميديه مضحكه قصص حب كوميدية قصص مصرية قصص كوميدية قصص وحكايات قصص قبل النوم

Post a Comment

Previous Post Next Post