الانتكاسة في الدين أسباب وعلاج |
المنتكسون قسمان هما:
أولا / قسم يؤدي به انتكاسه إلى الكفر
والعياذ بالله كأن يترك الصلاة أو يهزأ بالدين ويسخر من أهله.
ثانيًا / وقسم لا يصل إلى درجة الكفر
ولكنه بدأ يكثر من ارتكاب المعاصي غير المكفرة ويترك الواجبات أو كثيرًا منها.
وقبل أن أسبقك بجواب أسئلة كثيرة، تخطر
لك عند تنبهك لمثل هذا الموضوع، فإني لا أجد مردًا من أنبهك على أمور مهمة، فارعني
لها سمعك، وأعرني لأجلها قلبك الطاهر:
في البداية
أن الحديث ليس عن أعداد محدودة، بل كما سبق لك حديثي عن ظاهرة متزايدة، لست
بمبالغ، وأظنك متيقظ لمثل هذه النصوص، يروى الإمام أحمد رحمه الله تعالى 3/ 120 عن
أنس رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا عليكم أن لا تعجبوا
بأحدكم حتى تنظروا بم يختم له، فإن العامل يعمل زماناً من عمره، أو برهة من دهره
بعمل صالح لو مات عليه دخل الجنة، ثم يتحول فيعمل عملاً سيئاً، وإن العبد ليعمل
البرهة من دهره بعمل سيئ، لو مات عليه دخل النار، ثم يتحول فيعمل عملاً صالحاً،
وإذا أراد الله بعبد خيراً استعمله قبل موته، قالوا: يا رسول الله، وكيف يستعمله؟
قال: يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه" وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: " فوالله إن أحدكم - أو الرجل - ليعمل بعمل
أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها غير باع أو ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل
بعمل أهل الجنة فيدخلها. وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها
غيرُ ذراع أو ذراعين، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها" رواه
البخاري 6594 ومسلم2643، وتذكر قول الله تعالى: ﴿ وَلَوْلَا أَنْ
ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا
لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ
عَلَيْنَا نَصِيرًا ﴾ [الإسراء:
74، 75] وفي موضع آخر يقول سبحانه: ﴿ وَلَوْلَا
فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ
يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ
وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ
تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴾ النساء: 113.
أن تعلم أن خوف سوء الخاتمة أو الضلالة
بعد الهدى من سنن الصالحين من قبلك، بل وأنبياء الله عليهم صلاة الله وسلامه، ألم
تسمع لإبراهيم عليه الصلاة والسلام أبو الأنبياء يدعو بحرقة: (واجنبني وبني أن
نعبد الأصنام)،
ويوسف عليه الصلاة والسلام العفيف ينادي بلا حول ولا قوة: ﴿ قَالَ رَبِّ
السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي
كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [يوسف: 33]،
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
أسـباب
الانتـكاسـة:
·
التقـصير
في الطاعات والتهاون في تضييع السنن:
هذا هو السبب الأول ولهذا السبب مظاهر:
فتجده لا يهتم بباطنه فلا عبادة ولا خشوع ولا صدق مع الله ولا نوافل سر، بل
استقامة ظاهرية شكلية فهو منتكس الباطن ولا يشعر، يفرط في السنن الراتبة، وربما
يتأخر عن صلاة الجماعة، وتمر به الفترات ولم يقم من الليل ولم يخشع في الصلاة ولم
يختم القرآن، وهكذا استمرارُ في التراجعات، ثم يستمر في دحرجة التنازلات؛ من ترك
الإنكار على ما يسمعه ويراه من منكرات، إلى المشاركة في مشاهدة الحرام أو تعاطيه،
إلى إدمان الملاهي والمعاصي والوحشة من فراقها.. ثم إلى الانتكاسة والعياذ بالله،
يقول ابن القيم رحمه الله في الفوائد/ 128" تكرر في القرآن جعل الأعمال
القائمة بالقلب و الجوارح سببَ الهداية والإضلال، فيقوم بالقلب والجوارح أعمالٌ
تقتضي الهدى اقتضاء السبب لمسببه، والمؤثر لأثره، وكذلك الضلال"، إذا أخي في
الله هي سلسلة من المترابطات آخذٌ بعضها برقاب بعض!
يقول أبو محمود عبد الله بن محمد بن
منازل النيسابوري ( شذرات الذهب1/ 330): لم يُضع أحد فريضة من الفرائض إلا ابتلاه
الله بتضييع السنن ولم يبتل أحد بتضييع السنن إلا أوشك أن يبلى بالبدع، وقال حسان
بن عطية رحمه الله تعالى: ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها
ثم لا يعيدها عليهم إلى يوم القيامة. رواه اللالكائي 129 والدارمي98 بسند صحيح.
إن من آثار الانتكاسة بل من أشهرها:
البدعة بعد السنة، والجهل بعد العلم، والحيرة بعد اليقين عن أبي هريرة رضي الله
عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بينا أنا قائم على الحوض إذا زمرة حتى
إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلم، فقلت: إلى أين؟ قال: إلى النار
والله، فقلت: ما شأنهم؟ فقال: إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى، ثم إذا زمرة أخرى
حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، فقال لهم: هلم، قلت: إلى أين؟ قال: إلى
النار والله، قلت: ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا على أدبارهم، فلا أراه يخلص منهم
إلا مثلُ همل ِالنعم" رواه البخاري ومسلم، وعن عائشة عند مسلم: "
فلأقـولن أي رب أمتي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ما زالوا يرجعون على
أعقابهم"، أيها الإخوة احذروا التراجعات!!
سـبيل النجـاة:
جاء من
حـديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم قومٌ
يجتهدون في العبادة اجتهادًا شديدًا؛ فقال:" تلك ضرورة الإسلام وشرته، ولكل
عملٍ شرة، فمن كانت فترته إلى اقتصاد فنعـمَ ما هو، ومن كانت إلى المعاصي فأولئك
هم الهالكون" رواه الطبراني.
يقـول شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله: " فتخلل الفترات للسالكين أمرٌ لازم لا بد منه، فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد، ولم تخرجه عن فرض ٍ، ولم تدخله في محرم ٍ، رُجي له أن يعود خيرًا مما كان، مع أن العبادة المحببة إلى الله سبحانه هي ما داوم العبـد عليها"، مدارج السالكين 3/ 126. فلتعلم أيها الفاضل: أن أول خطوة في الانتكاسة هي ما بعد الفتـور، لذا دائمًا اجتهد في استحضار حديث عن عبدالله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم" رواه الحاكم 1/ 45 وانظر السلسلة الصحيحة 1585، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: " القلوب أربعة: قلب أجرد كأنما فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن، وقلب أغلف فذلك قلب الكافر، وقلب مصفح فذلك قلب المنافق، وقلب فيه إيمان ونفاق، ومثل الإيمان فيه كمثل شجرة يسقيها ماء طيب، ومثل النفاق فيه كمثل قرحة يمدها قيح ودم فأيهما غلب عليه غلبه" وجاء عن معاذ رضي الله عنه أنه قال:" اجلسوا بنا نؤمن ساعة، يعني نذكر الله تعالى" وعن علقمة أنه كان يقول لأصحابه:"امشوا بنا نزدد إيماناً
ومن أخبار
الثابتين في مثل هذه الحـوادث:
ما رواه مالك عن عبد الله بن أبي بكر
أن رجلا من الأنصار كان يصلي في حائط له بالقـف في زمان التمر، والنخل قد ذللت
قطوفه بثمرها فنظر فأعجبه ما رأى من ثمرها ثم رجع إلى صلاته فإذا هو لا يدري كم صلى؟
فقال: لقد أصابني في مالي هذا فتنة، فجاء إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو
يومئذ خليفة فذكر له ذلك، وقال: إنه صدقة فاجعله في سبل الخير، فباعه عثمان رحمه
الله بخمسين ألفـًا، فسمي ذلك المال الخمسون. راجع معجم ما استعجم 3 / 1087.
فلو أنك عرفت من أين تؤتى، لم يأخذك
الشيطان على غرة!
· سـوء المقصـد وإرادة العـلو في الأرض والترأس:
فتكبر في نفسه أخلاق السوء من العجب
والحسد والرياء، ولا يتعاهد نفـَسه حتى تظهر على تصرفاته قولا وفعلا، لا يعمل بما
يوعظ به أو يوجه إليه، ثم ابتعـد فترة ليست بالقليلة عن سماع موعظة مؤثرة بمحاسبة
بالغة، لم يرب ِ نفسه تربية علمية ولا أخلاقية ولا وجدانية بل الخواء العقدي
والإيماني هو المسيطر على جوانب حياته، ومع ذلك يبحث عن الشهرة وحب الترأس
والأنانية في الهموم والمشاريع، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"ما ذئبان
جائعان أرسلا في غنم بأفـسد لهما من حرص المرء على المال والشرف لدينه" رواه
الترمذي 2377 وأحمد2/ 456.
قال بعضهم: من تكلم في الإخلاص ولم
يطالب نفـسه بذلك ابتلاه الله بهتك ستره عند إخوانه وأقرانه، وقال أبو العباس بن
عطاء: قرن ثلاثة أشياء بثلاث قرنت الفـتنة بالمنية، وقرنت المحنة بالاختيار، وقرنت
البلوى بالدعاوي. حلية الأولياء 10/ 302، قال الشاطبي رحمه الله في الاعتصام:"
آخر الأشياء نزولا من قلوب الرجال حب السلطة والترأس".
يقول أبو ادريس الخولاني رحمه الله:
فاتني معاذ بن جبل فأخبرني يزيد بن عميرة أنه يقول في كل مجلس يجلسه: الله حكم قسط
تبارك اسمه، هلك المرتابون، إن من ورائكم فتنـًا يكثر فيها المال، ويفتح فيها
القرآن حتى يأخذه الرجل والمرأة والحر والعبد والصغير والكبير، فيوشك أن الرجل
يقرأ القرآن فيقول: قد قرأت القرآن فما بال الناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن، ثم
يقول: ما هم بمتبعي حتى ابتدع لهم غيره، فإياكم وما ابتدع؛ فإن ما ابتدع ضلالة،
واتقوا زيغة الحكيم، فإن الشيطان يلقي على الحكيم كلمة الضلالة، قالوا: وكيف نعرف
زيغة الحكيم؟ قال: اجتنبوا من كلام الحكيم كل متشابه الذي إذا سمعته قلت: هذا، ولا
ينأى بك ذلك عنه؛ فإنه لعله أن يراجع، وتلق الحق إذا سمعته، فإن على الحق
نورًا" الإبانة 1/ 308.
ومما يشـهد
لهـذا المعنى من أخبـار التاريخ القريب:
قصة أبي محمد عبد
الله بن علي الصعيدي القصيمي ذاك الرجل الذي
كان طالبًا للعلم يشتعل ذكاءً وعبقرية، ذو خيال واسع وعبارات ساحرة، كثير الردود
على أهل الشرك والرفض والإلحاد، أثنى عليه الكثير من علماء عصره، لقوة مؤلفاته
وجودتها، ومنها:
الصراع بين الإسلام والوثنية في جزئين
ضخمين في الرد على أحد الشيعة، البروق النجدية في اكتساح الظلمات الدجوية رد فيه
على القائلين بجواز التوسل بالبشر، مشكلات الأحاديث النبوية وبيانها يرد فيه على
علماء المادة والملاحدة الزاعمين التناقض بين الأحاديث النبوية والعلم الحديث،
الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم، نقـد لكتاب "حياة محمد"، وغير
ذلك وكلها في الرد على أهل البدع بقـوة علمية وعقـدية، يرد الشبهة بوجوه متعددة لا
يبقي لها رأسًا ولا أسًا، ثم انتكس، والعياذ بالله! وفي هذه المرحلة ألف كتبه:
هذه هي الأغلال، الإنسان يعصي لهذا
يصنع الحضارات، لئلا يعود هارون الرشيد مرة أخرى، فرعون يكتب شفر التاريخ، وآخر
كتبه وأخبثها: العالم ليس عـقلا، وإليك خلاصة ما فيها:
• إنكار
الإلهية والنبوة والمعاد وسائر الغيبيات.
• التهجم
على الأمة العربية ورميها بالنقائص.
• الافتخار
بالغربيين والملاحدة والفلاسفة.
• ثم ألف
جمعية سماها جيش الإنقاذ لجمع الناس بلا دين وخاصة النساء!
يقول في أحد كتبه ما قبل الإلحاد: وربما
قال البعض أن الرد على الملحدين لا يجدي شيئا، لأن من دخل حظيرة الإلحاد فهيهات أن
يغادرها، وهو احتجاج ضعيف مهين؛ فإن من ذاق حلاوة التوحيد ولباب الإخلاص فهيهات أن
يعافه، فلم أسمع أن رجلا دخل مذهب الموحدين وتطهر قلبه من أرجاس الشرك فخرج منه
ونقص على عقبيه.
وبعدها يقول في كتاب من كتب زندقـته: إن
الإنسان المثل الذي يجب أن يكون هو زنديق العقـل قديس النفـس والأخلاق، هو العاصي
المتمرد المحارب بتفكيره، وكتب فصلا في بعض كتبه سماه: احتلال الإله لعقولنا هو
أفدح أنواع الاحتلال، وله كلام فظيع في سب الله سبحانه وتعالى ورسله عليهم الصلوات
والسلام، أنزه الله تعالى ورسله عن ذكره!.
وقد كفره أهل العلم والدين، ورماه كثير
من أساتذة الاشتراكية والحداثية بالجنون!! فنعوذ بالله من الحور بعد الكور.
وإذا قرأت قصته وجدت أن دلالات
انتكاسته كانت كثيرة، فلا تدري بأيها أصيب:
بدأ يكثر
السفسطة في الأمور البديهة ثم امتلأ بالوساوس الشيطانية وحب الجدل، كان كثير
التقشف والزهد والتقتير في رهبانية بعيدة عن الحنيفية السمحة، كان شديد الاندفاع
والثورة على كل شيء وشغوف بالرد على كل أحد، كان مغرورًا جدًا متكبرًا كثير
الإطراء على نفـسه والاحتقار لمن هو في العلم مثله
سـبيل النجـاة:
في الحديث الصحيح قال النبي صلى الله
عليه وسلم:" يا نعايا العرب أخوف ما أخاف عليكم الشرك والشهوة الخفية"
راجع السلسلة الصحيحة508.
قال أبو عبد الله الجلاء:
الحق
استصحب أقوامًا للكلام واستصحب أقوامًا للخلة، فمن استصحبه الحق لمعنى ابتلاه
بأنواع المحن، فليحذر أحدكم طلب رتبة الأكابر، وكان يقـول: من بلغ بنفـسه إلى رتبة
سقط عنها، ومن بلغ به ثبت عليها. فإياك والقفـزات، فكلٌ ميسر لما خـُلق له.
ومن أخبار
الثابتين في مثل هذه الحـوادث:
قصة كعب بن مالك رضي الله عنه لما تخلف
في غزوة تبوك اسمع له وهو يقول:
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا
حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما صاحباي
فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم فكنت أخرج
فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد وآتي رسول الله صلى
الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي هل حرك شفتيه
برد السلام علي أم لا ثم أصلي قريبًا منه فأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي أقبل
إلي وإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسورت
جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي فسلمت عليه فوالله ما رد علي
السلام، فقلت يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله فسكت، فعدت له
فنشدته فسكت، فعدت له فنشدته فقال: الله ورسوله أعلم ففاضت عيناي، وتوليت حتى
تسورت الجدار، قال فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط أهل الشام، ممن
قدم بالطعام يبيعه بالمدينة، يقول: من يدل على كعب بن مالك، فطفق الناس يشيرون له،
حتى إذا جاءني دفع إلي كتابًا من ملك غسان؛ فإذا فيه أما بعد فإنه قد بلغني أن
صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك، فقـلت: لما
قرأتها وهذا أيضًا من البلاء فتيممت بها التنور فسجرته بها. أرأيت كيف نجا، عرف أن
طريق الشهرة والترأس منتهاه الافتتان، لذا قال الله فيه وفي صاحبيه: ﴿ يَاأَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة:
119.
· عـدم معرفة المنتكسين بأسباب الفتن، وطريقة النجاة منها
ولهذا يكثر المتساقطين في أوساط الجهلة
بسنن الله، وبمنهاج الفرار إليه سبحانه، ولهذا السبب مظاهر:
فتجد المتذبذب لا يحب الافتراق ولو كان
مع أهل الظلم أو الباطل، تجده لا يعرف أصوله وركائزه، منهج دعوته وسيبل استقامته،
يجزع على كل أحد ويستوحش الغربة، يستكثر بالمتشابهات ويستدل بالرجال، لا يعرف منهج
أهل الحق بعد موت علمائهم ولا فقههم في الفتن والخلاف والافتراق وعند الشبهات،
فيتهافت هلعًا قبل أن تجلو الطريق.
يقول عز وجل: ﴿ وَمَا كَانَ
اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا
يَتَّقُونَ ﴾ [التوبة:
115]، ويخبر الله عن هذه السنة الماضية في الأولين والآخرين فيقول: ﴿ وَلَقَدْ
فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا
وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت:
3]، ويقول سبحانه: ﴿ وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ
فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ﴾ [العنكبوت:
10]، وأيضًا: ﴿ وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ
بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ
ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الحج:
11]، وانتبه لقوله تعالى: ومن الناس، ومن الناس، ليقص علينا بعدها أخبار
المنقـلبين على أدبارهم وليحذرنا سبيلهم.
قال ابن عدي في الكامل1/ 145في سبب
افتتان بني إسرائبل بالعجل، قال:
فتم ميقات ربه أربعين ليلة، ففي تلك
الليالي العشر افتتن بنو إسرائيل؛ لأن الثلاثين انقضت ولم يرجع إليهم موسى.
ويوضح هذا قول صاحب طبقات الحنابلة 1/
69 عند ترجمة الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل قال: إمامنا ومعلمنا ومعلم
من كان قبلنا منذ أكثر من ستين سنة وموت العالم مصيبة لا تجبر وثلمة لا تسد، وما
علم عالم إنهم يتفاضلون ويتباينون بونا بعيدًا، فقد ظننت أن عدو الله وعدو
المسلمين إبليس وجنوده قد أعدوا من الفتن أسبابا انتظروا بها فقده لأنه كان يقمع
باطلهم ويزهق أحزابهم، وكانت أول بدعة علمتها فاشية من الفتن المضلة ومن العماية بعد
الهدى، وقد رأيت قومًا في حياة أبي عبدالله كانوا لزموا البيت على أسباب من النسك
وقلة من العلم فأكرمهم الناس ببعض ما ظهر لهم من حبهم للخير فدخلهم العجب مع قلة
العلم فكان لا يزال أحدهم يتكلم بالأمر العجيب فيدفع الله ذلك بقول الشيخ جزاه
الله أفضل ما جزى من تعلمنا منه ولا يكون من أحد منهم من ذلك شيء إلا كان سبب
فضيحته وهتك ما مضى من ستره فأنا حافظ من ذلك لأشياء كثيرة، وإنما هذا من مكايد
إبليس مع جنوده يقول لأحدهم أنت أنت ومن مثلك فقل قد قال غيرك، ثم يلقى في قلبه
الشيء و ليس هناك سعة في علم فيزين عنده أن يبتدئه ليشمت به وإن كل محدثة بدعة وكل
بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وقد ظننت أن آخرين يلتمسون الشهرة ويحبون أن
يذكروا وقد ذكر قبلهم قوم بألوان من البدع فافتضحوا، ولأن يكون الرجل تابعًا في
الخير خير من أن يكون رأسا في الشر.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: استن بمن
مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة.
فالعلم بسبل الفتن وأنواعها، وأسباب
الخلاف ومواضعه، ووسائل الانحراف وطرقه، مسلك نجاة والموفق من ثبته الله، قال
حذيفة رضي الله عنه: كان الناس يسألون عن الخير وكنت اسأل عن الشر مخافة أن يدركني.
ومما يشـهد لهـذا
المعنى من أخبـار التاريخ:
سـبيل النجـاة:
في حلية الأولياء 5/ 123: عن أبي إدريس
عائذ الله قال: هذه فتنة قد أظلت كحياة البقـر هلك فيها أكثر الناس إلا من كان
يعرفها قبل ذلك، وفي الحلية أيضًا 1/ 310: قال ابن عمر رضي الله عنهما: كان مثلنا
في هذه الفـتنة كمثل قوم كانوا يسيرون على جادة يعرفونها فبينما هم كذلك إذ غشيتهم
سحابة وظلمة فأخذ بعضهم يمينـًا وشمالا فأخطأ الطريق، وأقـمنا حيث أدركنا ذلك حتى
جلى الله ذلك عنا فأبصرنا طريقنا الأول فعرفناه وأخذنا فيه، وإنما هؤلاء فتيان
قريش يقـتتلون على هذا السلطان وعلى هذه الدنيا ما أبالي أن يكون لي ما يقـل بعضهم
بعضًا بنعلي هاتين الجرداوين. حلية الأولياء1/ 310، وسير أعلام النبلاء3/ 273، نعم
رحمه الله، وتبًا لمن استشرف الفتنة واستشرفته.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
وتنبه لكلامه: "وقبض الأمانة والإيمان ليس هو قبض العلم، فإن الإنسان قد يؤتى
إيماناً مع نقص علمه، فمثل هذا الإيمان قد يرفع من صدره، كإيمان بني إسرائيل لما
رأوا العجل، وأما من أوتي العلم مع الإيمان؛ فهذا لا يرفع من صدره، ومثل هذا لا
يرتد عن الإسلام قط، بخلاف مجرد القرآن، أو مجرد الإيمان، فإن هذا قد يرتفع، فهذا
هو الواقع، لكن أكثر ما نجد الردة فيمن عنده قرآن بلا علم وإيمان، أو من عنده
إيمان بلا علم وقرآن، فأما من أوتي القرآن والإيمان؛ فحصل فيه العلم، فهذا لا يرفع
من صدره، والله أعلم ثم قال: وقد قال الحسن البصري:" العلم علمان: علم في
القلب، وعلم على اللسان"، فعلم القلب هو العلم النافع، وعلم اللسان حجة الله
على عباده" الفتاوى 18/ 304- 305، ولا يخفاك أن قصدنا بعلم الفتن وفقهها هو
الأول.
ومن أخبار
الثابتين في مثل هذه الحـوادث:
ما قصه ابن كثير في البداية والنهاية
5/ 243 في خبر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: وأقبل أبو بكر رضي الله عنه من
السنح على دابته حتى نزل بباب المسجد وأقبل مكروبًا حزينا فاستأذن في بيت ابنته
عائشة فأذنت له فدخل ورسول الله قد توفي على الفراش والنسوة حوله فخمرن وجوههن
واستترن من أبي بكر إلا ما كان من عائشة، فكشف عن رسول الله فحثى عليه يقبله ويبكي
ويقول: ليس ما يقوله ابن الخطاب شيئا توفي رسول الله والذي نفسي بيده، رحمة الله
عليك يا رسول الله ما أطيبك حيًا وميتا، ثم غشاه بالثوب ثم خرج سريعًا إلى المسجد
يتخطى رقاب الناس حتى أتى المنبر، وجلس عمر حين رأى أبا بكر مقبلا إليه وقام أبو
بكر إلى جانب المنبر، ونادى الناس فجلسوا وأنصتوا، فتشهد أبو بكر بما علمه من
التشهد، وقال: إن الله عز وجل نعى نبيه إلى نفسه وهو حي بين أظهركم ونعاكم إلى
أنفسكم وهو الموت حتى لا يبقى منكم أحد إلا الله عز وجل، قال تعالى: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ
إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ﴾ [آل عمران: 144]
الآية، فقال عمر: هذه الآية في القرآن والله ما علمت أن هذه الآية أنزلت قبل
اليوم، وقد قال الله تعالى لمحمد: ﴿ إِنَّكَ
مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ﴾ [الزمر:
30] وقال الله تعالى: ﴿ كُلُّ
شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [القصص:
88] وقال تعالى: ﴿ كُلُّ
مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى
وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ [الرحمن: 26، 27]
وقال: ﴿ كُلُّ
نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ ﴾ [آل
عمران: 185] وقال: إن الله عمر محمدًا وأبقاه حتى أقام دين الله وأظهر أمر الله
وبلغ رسالة الله وجاهد في سبيل الله ثم توفاه الله على ذلك وقد ترككم على الطريقة
فلن يهلك هالك إلا من بعد البينة والشفاء، فمن كان الله ربه فان الله حي لا يموت
ومن كان يعبد محمدا وينزله إلها فقد هلك إلهه، فاتقوا الله أيها الناس واعتصموا
بدينكم وتوكلوا على ربكم فإن دين الله قائم وإن كلمة الله تامة وإن الله ناصر من
نصره ومعز دينه وأن كتاب الله بين أظهرنا وهو النور والشفاء وبه هدى الله محمدًا
وفيه حلال الله وحرامه، والله لا نبالي من أجلب علينا من خلق الله، إن سيوف الله
لمسلولة ما وضعناها بعد ولنجاهدن من خالفنا كما جاهدنا مع رسول الله، فلا يبغـين
أحد إلا على نفـسه، ثم انصرف معه المهاجرون إلى رسول الله فذكر الحديث في غسله
وتكفينه والصلاة عليه ودفنه.
ومن ذلك كذلك ما رواه صالح بن الإمام
أحمد قال: حضرت أبي الوفاة فجلست عنده وبيدي الخرقة لأشد بها لحيته فجعل يعرق ثم
يضيق ويفتح عينيه ويقول بيده هكذا: لا بعد، لا بعد ثلاث مرات، فقلت: يا أبت إيش
هذا الذي قد لهجت به في هذا الوقت، قال: يا بني ما تدري، قلت: لا، قال: إبليس لعنه
الله قائم بحذائي عاضًا على أنامله يقول يا أحمد فتني، فأقول: لا حتى أموت..
فرحمهم الله كم كانوا متيقظين لمحال البلاء.
·
فـتنة
المال وطلب الدنيا بعـمل الآخـرة:
منها التوسع في المباحات، وتحكم
الآخرين من غير المستقيمين بمعاش المهتدي وحياته، وطلبه إرضاءَهم على حساب دينه،
ومنافسة أهل الدنيا ومزاحمتهم، والدخول في الديون والانشغال بالمشاريع والفرح
بالأرباح والتخطيط للبعيد.. يتلوه الاستبشار بمصاحبة المترفين والتكالب في دنيا
المخذولين، ثم بعد ذلك لا تعـده!
عن حذيفة رضي الله عنه قال: إياكم
ومواقف الفتن! قيل: وما
مواقف الفـتن يا أبا عبد الله؟ قال: أبواب الأمراء، يدخل أحدكم على الأمير فيصدقه
بالكذب ويقول ما ليس فيه. حلية الأولياء 1/ 277 قال الإمام أحمد: عزيزٌ علي أن
تذيب الدنيا أكباد رجال ٍ وعـت قلوبهم القرآن.
أف ٍ لدنيا لا تواتيني إلا بتمزيقي لها
عُرى ديني
قال أبو حازم: إن بني إسرائيل لما
كانوا على الصواب كانت الأمراء تحتاج إلى العلماء وكانت العلماء تفر بدينها من
الأمراء فلما رأى ذلك قوم من أذلة الناس تعلموا ذلك العلم وأتوا به إلى الأمراء
فاستغنت به عن العلماء واجتمع القوم على المعصية فسقطوا وانتكسوا، ولو كان علماؤنا
يصونون علمهم لم تزل الأمراء تهابهم. صفة الصفوة 2/ 160.
أخي المبارك: هم الذين
بدأوا بالزيغ ومالوا لغير مراد الله ﴿ فَلَمَّا
زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ [الصف:
5]، وهم الذين كرهوا الاستمرار في الطاعات ﴿ ثُمَّ
انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ [التوبة: 127] هم
الذين تكبروا عن الاستجابة للحق وقد عرفوه ورأوه واضحاً، فكان الجزاء ﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ
آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ
يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا
يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ﴾ [الأعراف:
146] ثم ماذا؟ تراكمت الذنوب، وأدمنت على النفـور القـلوب ﴿ كَلَّا بَلْ
رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الفاتحة: 14] تعلقوا
بالدنيا وأخلدوا إليها يقول الله تعالى عن أحد المنتكسين على أدبارهم ﴿ وَاتْلُ
عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ
الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا
لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ
فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ
يَلْهَثْ ﴾ [الأعراف:
175، 176].
يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" تعس عبد
الدينار وعبد الدرهم
وعبد الخميصة إن أعطى رضي وإن منع سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقـش، طوبى
لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه مغبرة قدماه، إن كانت الحراسة كان في
الحراسة، وإن كانت السقاية كان في السقاية، إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع".
ومما يشـهد
لهـذا المعنى من أخبـار التاريخ:
في الكامل 1/ 156 لابن عدي في ذكر أمر
قارون: قال قتادة: كان يسمى المنور من حسن صورته، وجاء أنه كان حسن الصوت
بالتوراة. (وفي تاريخ الطبري 1/ 265 بسنده عن ابن عباس في قوله: ﴿ إِنَّ قَارُونَ
كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى ﴾ [
القصص:
76] قال: كان ابن عمه، وكان موسى يقضي في ناحية بني إسرائيل وقارون في ناحية،
والمنتظم (حتى 257هـ) 1/ 366 وكان قارون وهو ابن عم موسى بن عمران عظيم المال كثير
الكنوز قيل إن مفاتيح خزائنه كانت تحمل على أربعين بغلا، فبغى على قومه بكثرة ماله
فوعظوه ونهوه وقالوا له ما قص الله تعالى في كتابه: ﴿ لَا تَفْرَحْ
إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ
فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ
الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ
فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 76، 77]،
فأجابهم جواب مغتر لحلم الله عنه فقال: إنما أوتيته يعني المال والخزائن على علم
عندي قيل على خبر ومعرفة مني وقيل لولا رضا الله عني ومعرفته بفضلي ما أعطاني هذا،
فلم يرجع عن غيه ولكنه تمادى في طغيانه حتى خرج على قومه في زينته وهي أن ركب
برذونا أبيض بمراكب الأرجوان المذهبة وعليه الثياب المعصفرة وقد حمل معه ثلاثمائة
جارية على مثل برذونه وأربعة آلاف من أصحابه وبنى داره وضرب عليها صفائح الذهب
وعمل لها بابا من ذهب فتمنى أهل الغفلة والجهل مثل ماله فنهاهم أهل العلم بالله،
وأمره الله تعالى بالزكاة من كل ألف دينار دينار، وعلى هذا: من كل ألف شيء شيء
فلما عاد إلى بيته وجده كثيرا فجمع نفرا يثق بهم من بني إسرائيل فقال إن موسى
أمركم بكل شيء فاطعتموه وهو الآن يريد أخذ أموالكم فقالوا أنت كبيرنا وسيدنا فمرنا
بما شئت فقال آمركم أن تحضروا فلانة البغي، فتجعلوا لها جعلا فتقذفه بنفسها ففعلوا
ذلك فأجابتهم إليه ثم أتى موسى فقال إن قومك قد اجتمعوا لك لتأمرهم وتنهاهم فخرج
إليهم فقال من سرق قطعناه ومن افترى جلدناه ومن زنى وليس له امرأة جلدناه مائة
جلدة وأن كانت له امرأة رجمناه حتى يموت فقال له قارون: وإن كنت أنت؟ فقال نعم قال
فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة فقال ادعوها فإن قالت فهو كما قالت فلما
جاءت قال لها موسى أقسمت عليك بالذي أنزل التوراة ألا صدقت أنا فعلت بك ما يقول
هؤلاء قالت لا كذبوا ولكن جعلوا جعلا على أن أقذفك، فسجد ودعا عليهم فأوحى الله
إليه مر الأرض بما شئت تطعك فقال يا أرض خذيهم ... فهو يخسف به كل يوم قامة.
ومن حب الترأس أيضًا الاغترار بفتنة
الأتباع: في تفسير ابن كثير 2/ 266
عن ابن عباس قال: لما نزل موسى
بالجبارين ومن معه أتى بلعام بنو عمه وقومه فقالوا: إن موسى رجل حديد ومعه جنود
كثيرة وإنه إن يظهر علينا يهلكنا، فادع الله أن يرد عنا موسى ومن معه، قال: إني إن
دعوت الله أن يرد موسى ومن معه ذهبت دنياي وآخرتي، فلم يزالوا به حتى دعا عليهم؛
فسلخه الله ما كان عليه؛ فذلك قوله تعالى: ﴿ فَانْسَلَخَ
مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ ﴾ [الأعراف:
175].
سـبيل النجـاة:
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال:
يا معاشر العرب كيف تصنعون بثلاث: دنيا تقطع أعناقكم وزلة عالم وجدال منافق
بالقرآن، قال: فسكتوا، فقال: أما العالم فإن اهتدى فلا تقـلدوه دينكم وإن فتن فلا
تقطعوا منه آمالكم فإن المؤمن يفـتن ثم يتوب، وأما القرآن فمنار كمنار الطريق لا
يخفى على أحد فما عرفتم منه فلا تسألوا عنه أحدا وما شككتم فيه فكلوه إلى عالمه أو
كلوا علمه إلى الله، وأما الدنيا فمن جعل الله الغنى في قلبه فقد أفلح ومن لا فليس
بنافعة دنياه كذا رواه شعبة موقوفًا وهو الصحيح، وروى بعض هذه الألفاظ مرفوعا عن
معاذ.
·
التخلخل
في المعـتقـد وعـدم اليقـين بوعـد الله:
وهذا التذبذب المبكر ولد التقهقر فأثمر
التضعضع ثم فجر الانتكاسة، ولهذا التخلخل مظاهر مبكرة:
منها عدم إبراز الشخصية المستقيمة
السنية للناس؛ فتجده يستحيي أن يعرف الناس أنه من أهل الاستقامة، ومنها الحياء من
التصريح بالدعوة فضلا عن نشرها، ومحاولة الانفراد عن الشباب الصالحين والبعد عنهم،
ومجاملة أعداء الله ومداهنتهم بما يشوش أو يشوه سمعة الدعاة إلى الله، والخوف من
غير الله قال تعالى: ﴿ وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ
فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ﴾ [العنكبوت:
10].
قال ابن عقيل الحنبلي في الفنون: من
صدر اعتقاده عن برهان لم يبق عنده تلون يراعي به أحوال الرجال. الآداب الشرعية
لابن مفلح 1/ 263، يقول أحد السلف: ما رجع من رجع إلا من الطريق، ولو وصلوا إلى
الله ما رجعوا.
ومما يشـهد
لهـذا المعنى من أخبـار التاريخ:
ما جاء من خبر الرجال بن عنفـوة:
في تاريخ الطبري 2/ 279، قال ابن جرير:
وكان الرجال رجلا من بني حنيفة قد كان أسلم وقرأ سورة البقرة فلما قدم اليمامة شهد
لمسيلمة أن رسول الله قد كان أشركه في الأمر فكان أعظم على أهل اليمامة فتنة من
مسيلمة، وقال ابن كثير في البداية والنهاية6/ 323 وكان هذا الملعون من أكبر ما أضل
أهل اليمامة حتى اتبعوا مسيلمة لعنهما الله، وقد كان الرجال هذا قد وفد إلى النبي
صلى الله عليه وسلم وقرأ البقرة، وجاء زمن الردة إلى أبي بكر فبعثه إلى أهل
اليمامة يدعوهم إلى الله ويثبتهم على الإسلام، فارتد مع مسيلمة وشهد له بالنبوة،
وفي الإصابة 2/ 539 لابن حجر قال: وكان الرجال يقول كبشان انتطحا فأحبهما إلينا
كبشنا يعني مسيلمة ورسول الله، نعوذ بالله من الزيغ.
سـبيل النجـاة:
ومن أخبار
الثابتين في فـتنة الضراء:
ما جاء في ترجمة حبيب بن زيد بن عاصم
الأنصاري الأزدي رضي الله عنه من بني النجار من حلية الأولياء1/ 355 ونسبه إلى أهل
الصفة وصحف وإنما هو من أهل العقبة، قال: أخذه مسيلمة الكذاب فجعل يقول له أتشهد
أن محمدًا رسول الله فيقول: نعم، فيقول أتشهد أني رسول الله فيقول لا أسمع، فقطعه
مسيلمة!. وهو ثابت على دينه، لا يبتغي به بدلا.
·
اتباع
الشهوات والتساهل في محقرات الذنوب:
وهذا السبب لعله من أكثر الأسباب
وأخطرها، وله مظاهر، منها:
عدم التخلص من بقايا السيئات الماضية
من أفلام أو أغاني أو العودة لمرافقة ومسايرة أصدقاء الماضي أهل السوء، إدمان النظر
إلى ما حرم الله وعدم زجر النفس عن ذلك، مخالطة المردان والتعلق بهم، كثرة الوقوع
في آفات القلوب وآفات اللسان دون محاسبة بحجة المزاح أو عدم التشديد! فتأتي بعد ذلك
المحكات مع عدم الاستعداد فيحدث الانزلاق؛ ليتبين الصادق من الكاذب، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ
تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ
الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [آل
عمران: 155]، عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم:"إياكم ومحقرات الذنوب؛ كقوم نزلوا في بطن واد فجاء ذا بعود، وجاء ذا
بعود، حتى أنضجوا خبزتهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه "
رواه أحمد 5/ 331.
ويشخص ابن رجب رحمه
الله هذا الداء في رسالته القيمة المحجة في سير الدلجة/ 90 فيقول: "وقريب من هذا
أن يعمل الإنسان ذنباً يحتقـره، ويستهين به فيكون هو سبب هلاكه، كما قال تعالى ﴿ وَتَحْسَبُونَهُ
هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 15] وقال
بعض الصحابة: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر،إن كنا لنعدها على
عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الموبقات" يقول ابن القيم في كتابه القيم
الجواب الكافي/ 140منبهًا على أخطار الذنوب: " أنها تضعف سير القلب إلى الله
والدار الآخرة، أو تعوقه أو توثقه وتقطعه عن السير، فلا تدعه يخطو إلى الله خطوة،
هذا إن لم ترده عن وجهته إلى ورائه، فالذنب يحجب الواصل، ويقطع السائر، وينكس
الطالب، والقلب إنما يسير إلى الله بقوته، فإذا مرض بالذنوب؛ ضعفت تلك القوة التي
تسيره، فإذا زالت بالكلية انقطع عن الله انقطاعاً يصعب تداركه والله المستعان".
وقال/ 39: فإذا حصل له ذلك بعـد الهدى والبصيرة انتكس فصار أعلاه أسفـله، فحينئذ
يتولاه عدوه ويسوقه حيث أراد، فاحذر العواقب، فلخوفها بكى الصالحون.
يقول بعض السلف رحمهم الله جميعًا:
المعاصي بريد الكفر. قال عبد العزيز بن أبي رواد: "حضرت رجلاً عند الموت يلقن
لا إله إلا الله، فقال في آخر ما قال: هو كافر بما تقول، ومات على ذلك، قال: فسألت
عنه، فإذا هو مدمن خمر، فكان عبد العزيز يقـول: اتقوا الذنوب، فإنها هي التي
أوقعته " جامع العلوم والحكم1/ 173.
ومما يشـهد
لهـذا المعنى من أخبـار التاريخ:
ما حكاه ابن كثير في البداية
والنهاية11/ 64 في حوادث سنة ثمان وسبعين ومائتين: وفيها توفي عبده بن عبد الرحيم
قبحه الله ذكر ابن الجوزي أن هذا الشقي كان من المجاهدين كثيرًا في بلاد الروم
فلما كان في بعض الغزوات والمسلمون محاصرو بلدة من بلاد الروم إذ نظر إلى امرأة من
نساء الروم في ذلك الحصن فهويها، فراسلها: ما السبيل إلى الوصول إليك، فقالت: أن
تتنصر وتصعد إلي، فأجابها إلى ذلك، فما راع المسلمين إلا وهو عندها، فاغتم
المسلمون بسبب ذلك غمًا شديدًا وشق عليهم مشقة عظيمة، فلما كان بعد مدة مروا عليه
وهو مع تلك المرأة في ذلك الحصن، فقالوا: يا فلان ما فعل قرآنك، ما فعل علمك، ما
فعل صيامك، ما فعل جهادك، ما فعلت صلاتك، فقال: اعلموا أني أنسيت القرآن كله إلا
قوله: ﴿ رُبَمَا
يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ
يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ [الحجر:
2، 3]، وقد صار لي فيهم مال وولد.
وأخرى في كتاب ذم الهوى لابن الجوزي 1/
459 قال: وبلغني عن رجل كان ببغداد يقال له صالح المؤذن أذن أربعين سنة وكان يعرف
بالصلاح أنه صعد يومًا إلى المنارة ليؤذن فرأى بنت رجل نصراني كان بيته إلى جانب
المسجد، فافتتن بها، فجاء فطرق الباب، فقالت: من؟ فقال: أنا صالح المؤذن، ففـتحت
له، فلما دخل ضمها إليه، فقالت: أنتم أصحاب الأمانات فما هذه الخيانة؟ فقال: إن وافقتني
على ما أريد وإلا قتلتك، فقالت: لا، إلا أن تترك دينك، فقال: أنا بريء من الإسلام
ومما جاء به محمد، ثم دنا إليها، فقالت: إنما قلت هذه لتقضي غرضك ثم تعود إلى
دينك؛ فكل من لحم الخنزير فأكل، قالت: فاشرب الخمر فشرب، فلما دب الشراب فيه دنا
إليها فدخلت بيتا وأغلقت الباب، وقالت: اصعد إلى السطح حتى إذا جاء أبي زوجني منك،
فصعد فسقط فمات، فخرجت فلفـته في مسح، فجاء أبوها فقصت عليه القصة، فأخرجه في
الليل فرماه في السكة، فظهر حديثه، فرمي في مزبلة.
وثالثة 1/ 128: عن أبي الأديان قال كنت
مع أستاذي أبي بكر الدقاق فمر حدث فنظرت إليه فرآني أستاذي وأنا أنظر إليه فقال يا
بني لتجدن غبها ولو بعد حين فبقيت عشرين سنة وأنا أراعي فما أجد ذلك الغب، فنمت
ليلة وأنا متفكر فيه فأصبحت وقد نسيت القرآن كله. وانظرها الجواب الكافي/ 34
وتلبيس إبليس/ 399.
قال الضحاك: ما نعلم أحدًا حفظ القرآن
ثم نسيه إلا بذنب، ثم تلا قوله تعالى: ﴿ وَمَا
أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى:
30]، فلا تستبطيء العقوبة، فلعله يمكر بك، ولا تشعر!!
سـبيل النجـاة:
أن تراقب نفسك على مدار الأوقات، وألا
تأمن عليها أو تطمئن بها، فالهفوة وليدة اللحظة لكنها من حمل الأعوام، قال سهل بن
عبد الله التستري: ما من ساعة إلا والله عز وجل مطلع على قلوب العباد فأي قلب رأى
فيه غيره سلط عليه إبليس، ذم الهوى لابن الجوزي/ 77.
ومن أخبار
الثابتين في مثل هذه الحـوادث:
روى ابن كثير في تفسيره 4/ 107: كان
عمر رضي الله عنه مع رجل آخر إذ كان رجل من أهل الشام ذو بأس يفـد إلى عمر رضي
الله عنه ففقـده عمر، فقال: ما فعل فلان بن فلان، فقالوا: يا أمير المؤمنين تتابع
في هذا الشراب، قال: فدعا عمر كاتبه فقال: اكتب من عمر بن الخطاب إلى فلان بن
فلان، سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو غافر الذنب وقابل التوب
شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، ثم قال لأصحابه ادعوا الله
لأخيكم أن يقبل بقلبه، ويتوب الله عليه، فلما بلغ الرجل كتاب عمر رضي الله عنه جعل
يقرأه ويردده ويقول: غافر الذنب، وقابل التوب شديد العقاب، قد حذرني عقوبته ووعدني
أن يغفر لي، وفي رواية: فلم يزل يرددها على نفـسه ثم بكى، ثم نزع فأحسن النزع،
فلما بلغ عمر خبره قال: هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخًا لكم زل زلة، فسددوه ووثقـوه
وادعوا الله لأخيكم أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعواناً للشيطان عليه. فنعم الأخوة
التي تهدي إلى الله وتدل عليه.
وفي صفوة الصفوة 3/ 191: قال أمر قوم
امرأة ذات جمال بارع أن تتعرض للربيع بن خثيم فلعلها تفتنه وجعلوا لها إن فعلت ذلك
ألف درهم، فلبست أحسن ما قدرت عليه من الثياب وتطيبت بأطيب ما قدرت عليه، ثم تعرضت
له حين خرج من مسجده فنظر إليها فراعه أمرها، فأقبلت عليه وهي سافرة، فقال لها
الربيع: كيف بك لو قد نزلت الحمى بجسمك فغيرت ما أرى من لونك وبهجتك؟ أم كيف بك لو
قد نزل بك ملك الموت فقطع منك حبل الوتين؟ أم كيف بك لو قد سائلك منكر ونكير؟
فصرخت صرخة فسقطت مغشيًا عليها، فوالله لقد أفاقت وبلغت من عبادة ربها أنها كانت
يوم ماتت كأنها جذع محترق..!
· الطعن في أعراض الصالحين:
في صحيح الجامع 5509 قال النبي صلى
الله عليه وسلم: " ما ضل قومٌ بعد هدى كانوا عليه، إلا أوتوا الجدل"،
وفي الصحيحين عن أبي هريرة:" إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها
في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب".
وفي حلية الأولياء 10/ 351: قال أبو
عمرو محمد بن حمدان: سمعت محفوظ بن محمود يقول: من أبصر محاسن نفسه ابتلي بمساوي
الناس، ومن أبصر عيوب نفسه سلم من رؤية مساوي الناس، ومن ظن بمسلم فـتنة فهو
المفتون.
عن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم:" يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا
تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن
يتبع الله عورته يفضحه في بيته".
وعن أبي ذر قال: سمعت النبي صلى الله عليه
وسلم يقول:" لا يرمي رجل رجلا بالفسق أو الكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن
صاحبه كذلك" رواه البخاري.
ومما يشـهد
لهـذا المعنى من أخبـار التاريخ:
قصة أبي رية الذي شهر بكتبه التي كان
ينشرها المستشرقون ويثني عليه فيها الملحدون، والتي كان يطعن فيها على الصحابي
الجليل أبي هريرة رضي الله عنه، يقـول أحد الثقات دخلت عليه وهو يحتضر فكان في أمر
شديد وكرب عسير ضيق عليه من شدة السكرات، فما كأني رأيت ميتا يموت مثله، وهو يصيح
بين الفينة والفينة: ما لي ولأبي هريرة ما لي ولأبي هريرة، حتى خرجت روحه وهو على
هذه الحالة، والعياذ بالله.
سـبيل النجـاة:
أخي في الله إن علماء السنة رحمهم الله
هم أورع الناس وأنصحهم للناس، في طبقات الحنابلة 1/ 195-196: قال أبو محمد فوزان:
جاء رجل إلى أحمد بن حنبل فقال له: نكتب عن محمد بن منصور الطوسي؟ فقال: إذا لم
تكتب عن محمد بن منصور فعمن يكون ذلك، مرارًا، فقال له الرجل: إنه يتكلم فيك! فقال
أحمد: رجل صالح ابتلي فينا فما نعمل!!
ومن أخبار
الثابتين في مثل هذه الحـوادث:
قال إسحاق النيسابوري قرأت على أبي عبد
الله: بشر بن شعيب قال حدثني أبي عن الزهري قال: أخبرني سالم بن عبد الله عن عبد
الله بن عمر قال: جاءني رجل من الأنصار في خلاقة عثمان فكلمني فإذا هو يأمرني في
كلامه أن أعيب على عثمان، فتكلم كلامًا طويلا - وهو امرؤ في لسانه ثقـل فلم يكد
يقضي كلامه في سريح - فلما قضى كلامه قلت: إنا كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه
وسلم حي أفضل أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان،
(انظر كيف أجابه لرده للمحكم) وإنا والله ما نعلم عثمان قتل نفسًا بغير حق ولا جاء
من الكبائر، (وهذه الثانية أجابوا بالأصول وما خاض معه في المتشابه) ولكن هو هذا
المال فإن أعطاكموه رضيتم وإن أعطاه أولي قرابته سخطتم، (هكذا أردك ابن عمر أولها:
أموال ودنيا)إنما يريدون أن يكونوا كفارس والروم لا يتركون أميرًا إلا قتلوه،
(وهكذا صور عاقبتها: لا يتركون أحدًا إلا أسقطوه) قال: ففاضت عيناه بأربع من
الدمع، ثم قال: اللهم لا نريد ذلك. من مسائل الإمام أحمد للنيسابوري 2/ 171
وإسناده رجاله ثقات. فهذا هو السبيل، فعض عليه أيها المتبع، وإياك ومحدثات الأمور.
·
عدم
الصدق في مواضع البلاء:
سلوا بلالا وعمارًا ووالده عن السلاسل
والرمضاء والألم ِ
ولهذا السبب مظاهر مبكرة منها: ضعف
التربية الذاتية وعدم التحمس للثبات، عدم الاقتناع التام بما يقول أو يسمعه ويسخر
في نفسه من ثوابت أهل اليقين، ضعف الشخصية عن المواجهة أو التحدي لضغط البيئة أو
لمخالفة الواقع، التخلف عن مواضع الجد وساعات الصدق مع الله، وعدم تحمل أي من
المشاريع الجادة علمية كانت أو دعوية.
قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة 2/
13: وأضعف من هؤلاء إيمانا من إيمانه إيمان العادة والمربى والمنشأ فإنه نشأ بين
أبوين مسلمين وأقارب وجيران وأصحاب كذلك فنشأ كواحد منهم ليس عنده من الرسول
والكتاب إلا اسمهما ولا من الدين إلا ما رأى عليه أقاربه وأصحابه فهذا دين العوائد
وهو أضعف شيء وصاحبه بحسب من يقترن به فلو قيض له من يخرجه عنه لم يكن عليه كلفة
في الانتقال عنه، والمقصود أن خواص الأمة ولبابها لما شهدت عقولهم حسن هذا الدين
وجلالته وكماله وشهدت قبح ما خالفه ونقصه ورداءته خالط الإيمان به ومحبته بشاشة
قلوبهم فلو خير بين أن يلقى في النار وبين أن يختار دينًا غيره لاختار أن يقذف في
النار وتقطع أعضاؤه ولا يختار دينا غيره، وهذا الضرب من الناس هم الذين استقرت
أقدامهم في الإيمان وهم أبعد الناس عن الارتداد عنه وأحقهم بالثبات عليه إلى يوم
لقاء الله ولهذا قال هرقل لأبي سفيان: أيرتد أحد منهم عن دينه سخطة له قال لا قال
فكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب لا يسخطه أحد.
ومما يشـهد
لهـذا المعنى من الأخبـار:
عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم التقى هو والمشركون فاقتـتلوا، فلما مال رسول الله صلى
الله عليه وسلم إلى عسكره ومال الآخرون إلى عسكرهم، وفي أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم رجل لا يدع لهم شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه، فقالوا: ما أجزأ
منا اليوم أحد كما أجزأ فلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أما إنه
من أهل النار"، فقال رجل من القوم: أنا صاحبه، قال: فخرج معه كلما وقف وقف
معه، وإذا أسرع أسرع معه، قال: فجرح الرجل جرحاً شديداً، فاستعجل الموت، فوضع نصل
سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه، فخرج الرجل إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أنك رسول الله، قال: وما ذاك؟ قال: الرجل الذي
ذكرت آنفاً أنه من أهل النار فأعظم الناس ذلك، فقلت: أنا لكم به، فخرجت في طلبه،
ثم جرح جرحًا شديداً فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه في الأرض وذبابَه بين ثدييه ثم
تحامل عليه فقـتل نفسه، فقال رسول صلى الله عليه وسلم عند ذلك:" إن الرجل
ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل
النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة" رواه البخاري/ 898 ومسلم/ 112.
وفي تفسير القرطبي 5/ 88 قال: وذكر عبد
الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: غرب عمر ابن أبي أمية بن خلف في
الخمر إلى خيبر، فلحق بهرقل فتنصر، فقال عمر: لا أغرب مسلمًا بعد هذا.
سـبيل النجـاة:
يقول الله تعالى: ﴿ فَإِذَا
عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ﴾ [محمد:
21]، قيل للإمام الشافعي: أيمكن العبد خيرٌ له أم يبتلى؟ قال: لا يمكن حتى يبتلى،
يقول الله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا
مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا
يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة:
24]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: بالصدق واليقين تنال الإمامة في الدين.
ومن أخبار
الثابتين في مثل هذه الحـوادث:
عن خباب قال شكونا إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم وهو مضطجع في بردة له في ظل الكعبة فقلنا ألا تدعو الله لنا ألا
تستنصر الله لنا فجلس محمرًا وجهه، ثم قال: والله إن من كان قبلكم ليؤخذ الرجل
فيشق باثنين ما يصرفه عن دينه شيء أو يمشط بأمشاط الحديد ما بين عصب ولحم ما يصرفه
عن دينه شيء، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب منكم من صنعاء إلى حضرموت لا
يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تعجلون.
وقد ترجم أبو نعيم لخباب رضي الله عنه
في الحلية 1/ 143قال: ومنهم السابق المفتتن المعذب الممتحن خباب بن الأرت، ثم قال:
عن الشعبي قال: سأل عمر بلالا عما لقي من المشركين، فقال خباب: يا أمير المؤمنين
انظر إلى ظهري، فقال عمر: ما رأيت كاليوم! قال: أوقدوا لي نارًا فما أطفأها إلا
ودك ظهري! فلله درهم.
أيها الإخوة الأكارم، هذه
أسباب لها مظاهر ومؤشرات مبكرة، والحل كلما تأخر عسر، والمرء منا لا يعلم بما يختم
له، ولا ما يجزى به، فالبدار البدار للمحاسبة والمسائلة، وعليكم عليكم بالتنبه
والتيقظ، ولا يأمن أحدنا على نفسه، ثبتنا الله وإياكم وعافانا جميعًا من الحور بعد
الكور، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، ﴿ ربنا إننا سمعنا
مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا
سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار * ربنا وآتنا ما
وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد ﴾.
·
نصائح
سريعة
إرسال تعليق