شبح الطابق العلوي الحلقة الثانية والأخيرة |
من هنا
بدأت مشاعر الفضول تعبث بمشاعري وتسيطر علي تفكيري ربما لأنها شيء رائع بالنسبة لي
لكي أكتشف ماذا يحدث فهي بلا شك مغامرة سوف أخوضها حتى أصل إلي الحقيقة ولكن من أين
أبدأ هي تلك المشكلة، الكل يتجنب الحديث عن تلك الأصوات المنبعثة من ذلك الطابق والكل
يرفض أن يؤكد ما بداخلي ويخشى الخوض في ذلك لربما يتعرض لعقاب من شيء ما يجهل هويته،
لم أكن أنظر إلى الأمور بتلك النظرية بل كل ما يسيطر علي أفكاري هو حل لغز تلك الأصوات
فلا شيء يحدث في حياتنا دون سبب ولا بد من أن يكون هنالك سبب أو حكاية أجمعها مع باقي
حكاياتي.
قررت
العودة إلى هذا المنزل وأنا بداخلي تلك الرغبة الجامحة في تتبع كل شيء يمنحني الأمل
في معرفة ماذا حدث دون أن أثير ريبة خالتي، لكن في واقع الأمر لا أستطيع أن أنكر ذلك
الشعور الذي كان يجتاح خواطري مثل الأمواج الهادرة وهو الخوف والجزع من تبعيات ما سوف
يحدث لي، كلما اقتربت من هذا المنزل أشعر أن قلبي ينقبض بشدة على الرغم من محاولاتي
المستميتة في بث روح الشجاعة بداخلي، في هذا المنزل كان دائما لدي شعور سيئ نحو شيء
ما بداخل هذا المنزل وأن أعلم جيدا بأن هذا الشيء موجود ولم يبارح هذا الطابق ولكن
لماذا هذا الطابق بالذات وليس كل أجزاء المنزل؟!!... كان علي أن أجد إجابة لهذا التساؤل.
كنت
أخشى هذا وقت النوم لأنني أعلم أنني لن أستطيع النوم بسهولة بسبب كل هذه الهواجس التي
تجول بخاطري وتجعلني شاردا في هذا المنزل أبحث عن أي خيط يمنحني جزءا من الإجابة على
هذا السؤال.
بدأت
في محاولتي في جمع معلومات أكثر حيث كنت أسأل كل من كان له علاقة بخالتي أو بزوج خالتي
أو حتى الجيران بطريقة غير مباشرة حتى لا أثير فضول أو انتباه الآخرين عما أبحث عنه
ولا أسبب الضيق والضجر لخالتي وزوجها، بعضهم ذكر لي أن تلك الأرض التي بنيت عليها تلك
المنازل كانت في فترة ما في بداية القرن الماضي كانت عبارة عن مستنقعات وبرك لا يقترب
منها أحد وربما كانت مأوى للخارجين عن القانون فالكل يخشى أن يقترب منها بل كانوا يتجنبون
المرور بجوارها وأن الناس في بعض الأحيان كانوا يجدون العديد من الجثث لأشخاص ربما
تم قتلهم وتركهم في تلك المستنقعات وتلك الظاهرة كانت منتشرة في مصر في بداية القرن
الماضي بل أن البعض قد وجد أثناء حفر تلك المنازل
بعض العظام أو الهياكل العظمية الكاملة ولم تتعرف الشرطة عن أصحابها وأصبحت مجهولة
للأبد كما كانت من قبل، تلك الروايات كانت تشعل حماسة التفكير والتخيل لدي فكل شيء
أستطيع أن أتخيله وأضيف له التفاصيل حتى أنني في بعض الأحيان كنت أشعر أنني أستطيع
أن أتخيل ما حدث في تلك المستنقعات وملامح القسوة والفزع التي ارتسمت على ملامح كل
من القاتل والقتيل.
على
الرغم من عدم وجود دليل مادي أو أي شيء يثبت واقعية أو حقيقة تلك الرواية لكن قلت في
نفسي ربما تكون تلك الرواية صادقة ربما لأنها منحتني الزخم التخيلي أكثر من الزخم الواقعي
لها.
في تلك
اللحظات قفز في ذهني سؤال آخر ولماذا بيت خالتي فقط دون المنازل الأخرى؟!!... فلم أسمع
عن شيء قد حدث في المنازل المجاورة لنا وهذا يضعف من قوة رواية المستنقعات تلك فلو
هنالك شيء أسفل هذا المنزل فلماذا يجيد صدى أحزانه وآلامه في ذلك الطابق فقط دون غيره
من أجزاء المنزل.
ولكي
أجد إجابة عن هذا السؤال أدركت أنني يجب علي العودة مرة أخرى إلى ذلك
المربع
من جديد وهو مربع الصفر من الجديد لكي أتوصل لخيوط الحقيقة عما يدور داخل منزل خالتي.
بعد
مرور أكثر من عامين لم أتوصل لشيء فكل خيوط ضعيفة لا تستطيع أن تحملني نحو شاطئ الحقيقة
بل تهوي بي في تلك الهوة وسط ظلام من المتاهات والتساؤلات التي تكاد تصيبني بالجنون
حتى كاد الفشل واليأس يتملكني وأعلن عجزي عن حل هذا اللغز، بعد حين قادتني الصدفة للجلوس
مع إحدى قريبات زوج خالتي والتي تعتبر دائمة الزيارة لهم في المنزل وقريبة الصلة بهم
حيث توجهت لها في غفلة من خالتي لعلني أجد إجابة عما يجول بخاطري قائلا:
أحيانا
أشعر أن هنالك شيئا غريبا يحدث في هذا المنزل ولكن لا أفهم سر هذا
ما هو
الشيء الذي لا تفهمه؟!!... أنا لا أفهم ماذا تقصد؟!!
أقصد
بالطبع الطابق العلوي وتلك الأصوات الصادرة منه
نعم
فهمت ما تقصده... أتريد أن تعرف ما السبب لكل هذا؟!!
شعرت
أن الصدفة منحتني جواز العبور إلى الحقيقة حيث شعرت بالأدرينالين يسري بقوة في عروقي
ويمنحني قدرة علي الإنصات إلى تلك المرأة التي يبدو عليها تعلم القصة جيدا، شعرت أنها
تستعيد أشياء من ذكرياتها ممتزجة بالحزن وبأوقات
أليمة
لها وأن ما سوف ترويه لي يطلق صرخات كانت مخبأة في جنبات أغوار نفس تلك المرأة.
كان
لزوج خالتي أختا كانت هادئة قليلة الكلام تشعر بأن الحياة لم تمنحها شيئا من السعادة
بكل كانت قاسية معها لم يكن لها يوم أن تتخذ القرار في شيء من حياتها ربما لأنها لم
تكن جميلة يتهافت عليها الشباب لكي يتقدم لخطبتها مما يمنحها الشعور بالانكسار وخاصة
في المناطق الريفية التي لا ترحم الفتيات اللاتي لم ينلهن الحظ في الزواج مبكرا، كانت
تدعي سعاد استمرت في محنتها تلك حتى تزوجت من أول من طرق بابها حتى تتجنب كل تلك العيون
التي تلاحقها في كل مكان، رغبت بأن تعيش مثل باقي النساء لأيهم أن يكون هنالك حب أو
على الأقل أريحية تجاه من سوف تتزوجه فالريف لا يعترف بذلك ولا تمتلك الفتاة أن تحدد
مصيرها بل الأهل من يحدد ذلك المصير، لم يكن مهما بالنسبة لها أن يكون مليح الوجه أو
المنظر المهم أنه رجل سوف تعيش في كنفه وربما تمنحها الحياة بعضا من السعادة بين أحضان
ذلك الرجل ولكن في واقع الأمر لم تكن الحياة ترغب في ذلك بل منحتها المزيد من البؤس
والصراخ المكتوم بداخلها، توالت الأيام علي سعاد وهي تعيش حياة تعسة مع زوجها فكانت
حياتها عبارة عن بكاء وحزن تقضيه في كنف الليل بدلا من أحضان زوج طيب القلب محب لها،
كان زوجها قاسيا لا يحمل بين طيات قلبه أي مشاعر تجاه سعاد بل كان ينظر إليها أنها
مجرد امرأة منحها سك الزواج لكي تخدمه وتكون تحت إمرته في أي شيء يرغب به، كان بخيل
ولا يريد إنفاق أي شيء عليها أو على المنزل وكان زوج خالتي يحنو عليها ويعطف عليها
ولا يتأخر في مساعدتها ربما لشعوره بأحزانها التي لا تبوح بها لأحد بل تصمت والدموع
تتبلور بين جفونها حتى تتحجر فلا تتساقط منها على وجنتيها.
تلك
الأخت كانت في أواخر حملها الذي عانت منه طوال أشهر الحمل ما بين العمل المتواصل في
المنزل وندرة الطعام في المنزل وعدم وجود رعاية ومتابعة طبية لها، قبيل الولادة أخبرها
زوجها أنها يجب أن تذهب إلي أخيها لكي تلد عنده لكي يتكفل بها قبل الولادة وبعد الولادة
فهو لا يملك المال لذلك وعلي أخيها أن يتكفل بها دون أن يزعجه أحد بذلك، كانت مسكينة
ليس في مقدورها شيء تفعله فأخبرت أخاها بذلك وهي لا تستطيع التطلع في وجه أخيها فمن
حقه أن يرفض ذلك وهي لا تستطيع أن تجبره بذلك، كانت تتساءل لماذا يحدث كل هذا معها
وماذا فعلت لكي تجني كل هذا وما ذنب هذا الطفل القادم إلي الدنيا لكي يشاركها كل تلك
القسوة وشظف العيش مع والد ربما لا يرغب به، أدرك زوج خالتي ما يجول بخاطرها من حزن
وعجزها علي أن تفعل شيئا داخل تلك المتاهة التي تعبث بقدرها ومصيرها ومصير طفلها القادم
فرحب بها وأخبرها بأنه سوف يتكفل بكل شيء وهو سعيد للغاية بفعل ذلك.
جمعت
تلك الأخت ثيابها القليلة البالية في حقيبة وأحزانها وصراعاتها داخل قلبها
وفي
يدها طفلتها الصغيرة لكي تذهب إلى بيت أخيها لكي تلد في منزله تحت رعاية أخيها.
رغم
كل ما فعله زوج خالتي لسعاد لكنها لم تشعر بالسعادة أو أنها تنتظر طفلها القادم بكل
حب مثلما تفعل كل النساء فالقدر أشاء أنها تموت أثناء الولادة هي ومن في أحشائها نتيجة
كل هذا الإهمال ولعدم وجود رعاية طبية لها أثناء حملها والمجهود الشاق الذي كان عليها
أن تتجنبه لكنها لم تستطع أن تتحمل كل ذلك ورحلت من الدنيا كما كانت ترغب في يوم ما،
ربما يمكنها أن تجد السعادة في مكان آخر بعيد عن تلك الأحزان التي خلفتها وتركتها في
تلك الحياة.
تركت
طفلتها وحيدة مع والدها الذي قرر الزواج بعد موتها بفترة قصيرة،
زوج
خالتي لم يتردد في لحظة بأن يراعي بنت أخته تلك بين أبنائه لتعيش حياة طبيعية مثل باقي
أطفاله بل أتذكر أنه كان شديد الحب والعطف عليها حتى أنه كان في عمله ذات يوم وكان
عائد في وقت متأخر في إحدى ليالي الشتاء الممطرة فوجد أبنائه قد اشتروا مستلزمات الدراسة
للعودة للمدارس وكانوا كلهم فرحين ماعدا تلك الطفلة اليتيمة حيث ظلت تقف بعيدا تراقبهم
في صمت وعيونها يملأها الحزن واليتم كأنها تذكرت والدتها والحنين إلى أحضانها كما كانت
تفعل في السابق، ظلت تقف من بعيد في هدوء دون أن تتحدث بشيء.
صاح
عليها زوج خالتي لتريه ما اشترته من أجل المدرسة مثل فعل أبنائه فلم تنطق بشيء لأنها
لم تشتر شيئا لأنها تشعر بالخجل أن تتطلب شيئا فبكي زوج خالتي من هذا وأخذها في منتصف
الليل وذهب لأحد أصحاب المكتبات ليذهب معه خصيصا إلي المكتبة التي كانت مغلقة آنذاك
وتختار ما تشاء تلك اليتيمة من كل الأشياء التي تريدينها مهما كلفه هذا.
لكن
كل ذلك أثار بداخلي تساؤلا عن علاقة هذا بما يحدث في الطابق العلوي فوجهت تساؤلي هذا
إلى تلك المرأة قائلا:
وما
علاقة سعاد بما يحدث في ذلك الطابق؟!!... فأنا لا أجد علاقة بين الشيئين
ابتسمت
المرأة وهي تدرك متى اللهفة في عيني لمعرفة ما هي علاقة سعاد بذلك
الطابق
قائل:
لو انتظرت
قليلا لكنت أخبرتك ما هي علاقة سعاد بما يحدث بذلك الطابق
أكملت
السيدة القصة وأخبرتني أن في الطابق العلوي في غرفة ما سوف أجد حقيبة قديمة بها ثياب
سعاد التي أتت بها قبل الولادة وما تركته بعد موتها من ثياب كانت ترتديها أثناء الولادة
المتعثرة تلك، تركتها مثلما تركت طفلتها مع أخيها لكي يعتني بها وربما أن سبب ما يحدث
هي تلك الحقيبة التي بها ثيابها والتي أصر أخوها
أن يحتفظ
بها بداخل هذا الطابق.
بعد
عدة أيام وأنا أتأمل تفاصيل تلك القصة وأعيد كل كلمة ذكرتها تلك المرأة مرارا وتكرارا
والتي شعرت أنها أقرب إلى الحقيقة وأنها واقعية وليس بها مبالغة وربما تكون روح سعاد
هي التي هائمة في ذلك الطابق بالقرب من ابنتها التي تقطن معنا هذا المنزل، قررت أن
أصعد إلي الطابق العلوي وأبحث عن تلك الحقيبة وأرى ماذا بداخلها دون أن أخبر أحدا حتى
لا يغضب زوج خالتي بأنني سوف أعبث في أشياء أخته التي رحلت عن دنيانا.
بالفعل
بحثت في كل مكان حتى وجدها أسفل سرير ما حيث وجدها حقيبة قديمة مهملة منذ أمد بعيد
يعلوها الغبار والأتربة في ذلك المكان، أخرجتها ببطء وقلبي يكاد أن يقفز من جوفي لكي
يفر هاربا تاركا نفسيا بمفردها وهي تكتشف ما بداخل هذه الحقيبة، تلمست أقفالها المعطلة
وغطاء الحقيبة الذي يبدو أنه لم يتم إغلاقه بإحكام وعندما بدأت في فتح الحقيبة ببطء
وهدوء لأشاهد ما بداخلها فوجدت بالفعل بعض الثياب الملطخة بدماء قديمة أصبحت بنية اللون
قديمة.
عندما
بدأت أناملي تتحسس تلك الثياب ببطء شعرت بأنني أشعر بتلك الروح المسكينة بل أكاد أشعر
بحزنها ينتقل داخل روحي أنا، أكاد أن أرى سعاد تلك وهي تصرخ والدموع تملأ مقلتيها ولكنني
لا أسمع صوتها.
شعرت
بلمسات الألم والحزن والصراخ الذي كان بداخلها ولا تستطيع أن تبوح بها وأن روحها تهيم
في المكان تحوم من حولي تهتم بما أفعله بثيابها تلك، كأنها تراقبني عن كثب وتتساءل
لماذا هذا الفتي يعبث بثيابي وماذا يريد من ذلك؟!!
بلا
شك كانت روحها تسكن المكان لأن طفلتها هنا فهي تريد أن تكون بالقرب منها تشعر بها وتكون
بقربها تطمئن عليها تمنحها بعض الأحضان المفقودة في أحلامها.
الحقيقة
كئيبة والأحداث صعبة في أن يتحملها أحد فأغلقت الحقيبة مرة أخرى حتى لا أثير تلك الروح
أن تعبث بخواطري أكثر من ذلك، أعد الحقيبة كما كانت إلي مكانها أسفل ذلك السرير حتى
لا يلاحظ أحدا ما فعلته مع تلك الحقيبة، غادرت منزل خالتي ولم أرغب في العودة إليه
مرة أخرى إلى هناك.
مرت
على عدة أسابيع وأنا مشوه الذهن تنتابني أحلام وكوابيس تتراءين لي سعاد
وهي
تطلع إلي بوجه الحزين وآلامها تنبعث في وجهي مثل البركان الذي يقذف بحممه النارية في
وجهي لكي تزيد من عذابي عندما اقتحمت دنياها التي تعيش في كنفه دون أن تريد أو ترغب
في ذلك.
ذلك
الطابق بعد كل هذه السنوات التي مرت لم يسكنه أحد فالطفلة كبرت وتزوجت ورحلت من المنزل
كذلك زوج خالتي رحل حيث أسلم روحة في نفس ذلك الطابق ليبقي قريبا من أخته ومن حقيبته
التي تذكرتها عندما أصرت إحدى خالتي بأن ألقى النظرة الأخيرة علي زوج خالتي وأودعه
وهو ملقى علي ذلك السرير وجسده بارد وتلك الحقيبة بأسفل هذا السرير، تعجبت من أفعال
القدر بنا فثياب سعاد أسفل هذا الفراش تحمل روحها وذكرياتها بين طيات ثيابها وأخيها
فارق الحياة فوق ذلك الفراش وربما هامت روحه مع روح أخته سعاد، بعد وفاة زوج خالتي
لم تفارق خالتي الطابق السفلي مع ذكرياتها عن هذا المنزل الذي كان يعج بالزوار والأقارب
في يمو ما لكنها الآن بين تلك الجدران وصدى الماضي ما زال يصدح من حولها حيث ظلت وحيدة
بمفردها بعد كل هذا الزخم طوال حياتها، فقط الكل يمر بجوار هذا الطابق ويتجنبه حتى
الحديث عنه لا أحد يذكره الآن، فكل شيء في هذا المنزل أصبح ليس مهما.
انتهت
بقلم
الكاتب الدكتور
( الكلمات المفتاحية )
Post a Comment