هل
تدور أحداث فيلم "كثيب/ Dune" في الماضي أو المستقبل؟ وهل ما نشاهده
قصة حرب مقدسة في القرون الوسطى، أم نبوءة عن المستقبل البعيد؟ وما علاقة شخصية
المهدي بمعركة الاستيلاء على خلطة بهارات سحرية في كوكب صحراوي؟
لا
يقدّم "كثيب" للمخرج الكندي دوني فيلنوف المتوقع من فيلم خيال علمي. فلا
غزو لمخلوقات فضائية هنا، ولا ذكاء اصطناعي، ولا رواد فضاء حفظت أجسادهم في الجليد
لقرون... بل إقطاع يسيطر على كواكب تحكمها البشرية بعد مئات آلاف السنين من الآن،
وتقاليد دينية وأزياء تذكّر بحقب تاريخية غابرة.
خرق
دوني فيلنوف في السنوات الماضية قواعد جنرة الخيال العلمي، من خلال فيلمي
"أرايفل" (2016)، و"بلايد رانر 2049" (2017). فيهما، يتخذ
فيلنوف من محاولة الحوار مع مخلوقات فضائية غامضة (أرايفل)، ومن الاستنساخ
والتعديل الجيني (بلايد رانر)، كناية عن تحديات معاصرة كالتواصل واللغة والهوس
بالفرادة والبحث عن هوية.
في فيلمه الأخير،
يذهب فيلنوف أبعد من ذلك، من خلال اقتباس عمل يوضع أساساً في فئة خاصة بين كتب
الخيال العلمي، وهو سلسلة "كثيب" أو "ديون" للمؤلف الأمريكي
فرانك هربرت، والتي تصنّف كأكثر كتب الخيال العلمي مبيعاً.
يقول علي كارجو
راوري، أستاذ الدراسات الإسلامية المساعد في جامعة بوكنل الأمريكية لبي بي سي، إنّ
"ما يمنح سلسلة "ديون" مكانة خاصة بين باقي الأعمال المشابهة، أنها
أول عمل خيال علمي يأخذ الدين بشكل جدي، إذ أن هربرت لا ينطلق من فرضية أن الأديان
ستختفي، بل على العكس، يستخدم تأثيرات إسلامية، صوفية وشيعية تحديداً، ويستند إلى
محطات من التاريخ الإسلامي في محاولة للإجابة عن سؤال لماذا يبحث البشر دوماً عن
مخلصين موعودين؟
".
تحقيق صحافي لم يكتمل
يختص علي كارجو
راوري بدراسة التصوّف، وقد قاده ذلك إلى البحث في أصول التأثيرات الصوفية على
كتابة هربرت، والسرّ خلف اختياره لموضوع "كثيب" في بداية الأمر.
يخبرنا أن هربرت
عمل صحافياً في الخمسينيات، وقد كُلف حينها بكتابة تحقيق صحافي عن مشروع لوزارة
الزراعة الأمريكية في مدينة فلورانس في ولاية أوريغون، للسيطرة على امتداد كثبان
رملية (مفردها كثيب) من الشاطئ المجاور، حتى صارت تغطي معالم المدينة. حاولت
الحكومة زرع نوع معين من النبات، لتحول جذوره دون تطاير الرمال.
نجحت الحكومة في
السيطرة على الكثبان مع مرور السنوات، أما التحقيق فلم يكتمل ولم ينشر؛ بل تحوّل
إلى نواة لتفكير هربرت بالبيئة، وبتأثير الانسان والحضارة عليها، ولاهتمامه
بالبيئات الصحراوية تحديداً ما يعدّ الموضوع الأساسي لسلسلة "كثيب".
تضافر هذا
الاهتمام، يضيف راوري، مع فضول كان يكتنف المؤلف حول الإسلام وحركات التحرر في
العالم، لتشكل هذه الأمور روافد استقى منها هربرت كثيراً من خصائص العالم الذي بنى
فيه سلسلة رواياته.
وبينما تتتبع بعض
القراءات للسلسلة الروائية خطوطاً تربط بعض شخصياتها وعوالمها بمعتقدات دينية
مختلفة، يبدو واضحاً اقتباس الكاتب للعديد من خصائص الإسلام، سواء من خلال الرموز
والشخصيات، أو من خلال استخدام اللغات العربية والفارسية والتركية.
ويعتقد الباحث أن
كتابات الفيلسوف العراقي والأستاذ في جامعة هارفارد محسن مهدي عن ابن خلدون كان
لها تأثير كبير على هربرت. يظهر ذلك من خلال تفكيكه لنشأة الإمبراطوريات وأفولها
في السلسلة، ولكن أيضاً من خلال إحالات مباشرة، على سبيل المثال، تسمية أحد الكتب
الدينية في السلسلة، بـ"كتاب العبر"، في إحالة إلى الموسوعة التاريخية
التي وضعها ابن خلدون.
الحبكة
صدر الكتاب الأول
من سلسلة "كثيب" عام 1965، تلته خمسة كتب أخرى، تروي قصة الحرب الكونية
على كوكب "الراقص Arrakis" الذي يتميز بإنتاجه مزيجاً خاصاً من
البهارات، يُعتمد عليه في السفر بين الكواكب، وفي منح البشر قدرات تغنيهم عن
الذكاء الاصطناعي.
يعيش سكان الكوكب
الأصليون، الفريمان، في ظروف قاسية، مع انعدام أي مصدر للمياه على كوكبهم
الصحراوي. ينظمون حياتهم وعاداتهم ومعتقداتهم على إيقاع حركة ديدان ضخمة، يسمونها
"شيء الخلود"، تعيش تحت كثبان الرمال، تتخذها السلسلة استعارة عن قوة
الكون وعناصره الكامنة، وحركة الزمان الأزلية.
يتحكم مجلس يمثل
طبقة الأرستقراطيين والنبلاء بمصائر سكان عموم كواكب "الكون المعلوم"،
ومن بينها كوكب "الراقص"، إذ تتقاسم عائلات النبلاء السيطرة على الكواكب
وإخضاع سكانها واستغلال مواردها، ويَدين المجلس المكون لهذه الإمبراطورية الحاكمة
بالولاء للإمبراطور شادام الرابع.
وكما نرى في
الفيلم، ينتظر الفريمان المخلص الموعود، أو من يسمونه بـ"المهدي"
و"لسان الغيب"، الذي سيجدونه في شخصية غازٍ جديد لكوكبهم، وهو بول
أتريديس، سليل إحدى العائلات الإقطاعية الحاكمة للكون.
تبدأ قصة الرواية
مع مخطط للإمبراطور الحاكم (لا نراه في الفيلم) يهدف من خلاله إلى إبعاد بيت
أتريدس والقضاء عليهم؛ فيصدر أمرا بانتقال الحكم على كوكب "الراقص" من
سيطرة بيت هاركونن، ذي النفوذ القوي والقوة، إلى سلطة بيت أتريديس. يراهن
الإمبراطور على أنه بهذا سيضع العائلتين في مواجهة يتوقع أن تنتهي لصالح هاركونين.
في الفيلم، وهو
الجزء الأول من ثنائية، نتابع فرار بول ووالدته ليدي جيسيكا بعد اغتيال والده
الدوق ليتو، وانضمامهما إلى الفريمان.
ووالدة بول شخصية
مفصلية لفهم الأبعاد الدينية في الحكاية، فهي عضوة في منظمة "بيني
جيسيريت"، وهي جماعة سرية مؤلفة من النساء حصراً، تحكم الكون في الظلّ.
تمتلك تلك
الجماعة شبه الدينية، طاقات خارقة، وتعمل منذ آلاف السنين على هندسة جينية لإنجاب
المخلص الموعود الحامل لذاكرة ومعارف الجنس البشري بكامله.
وعملت الجماعة
منذ قرون على برمجة الفريمان عقلياً، لكي تمهد لإيمانهم بأن بول هو المهدي
الموعود.
ديانات "كثيب"
كان هربرت يكره
الآلات، لذلك تخيّل عالماً تقوم الفكرة الدينية فيه على "تحريم" الذكاء
الاصطناعي، وكلّ ما يمكن أن يعلو عن روح الإنسان أو يمسّ بها.
ولأن الأحداث
تدور في المستقبل البعيد جداً، ابتدع ديانات جديدة، ولكنها تستمدّ جوهرها من إرث
الأديان التي نعرفها، وتنطلق كلها مما أسماه بـ"الجهاد الباتلريّ" حين
يقوم البشر بثورة، ويقضون على كل الآلات، ويتفقون على وصيّة جامعة: "لا تشوّه
الروح".
عوالم هربرت
الدينية كثيفة وثرية، ولكن لكي لا نحرق الأحداث لمن لم يقرأ الكتاب، يمكن أن نقول
باختصار أن الكاتب يبتدع ديانات جديدة، هي خلاصة تجمع أبرز التقاليد الدينية
البوذية، والإسلامية، والمسيحية، واليهودية، مع بعض التقاليد الوثنية، يفصّلها في
ملحق خاص يرد في آخر رواية "كثيب".
من أبرز تلك
الديانات، ديانة "الزين سنة" التي يعتقد بها الفريمان، وتستخدم الكثير
من المفاهيم الصوفية مثل "عالم المثال" (عالم الأرواح أو البرزخ). ويعرف
كتابهم بالمقدس باسم "كتاب العبر".
من الديانات
الطاغية أيضاً، ما أسماه أتباع الحكماء الأربعة عشر، وكتابهم يسمى بـ"الكتاب
المقدس الكاثوليكي البرتقالي"، ويتخيله هربرت جامعاً لكل معتقدات البشرية،
بعد نهاية عصر الآلة، ومغادرة البشر لـ"الأرض القديمة"، أي كوكبنا.
وتعد "بيني
جيسيريت" أبرز حركة دينية منظّمة وفاعلة في عالم هربرت، مع أنها تعمل بشكل
سريّ، ولا تعلن عن امتلاكها معتقدات دينية في العلن، ولكنها تمارس طقوساً يشببها
الباحثون بالديانات الأمومية القديمة عبر التاريخ.
ويشير هربرت في
ملحقه، إلى أن الطبقة الحاكمة في "الكون المعلوم"، ذات معتقدات لا
أدريّة، ولكنها تستخدم الدين كدمية لتحقيق مصالحها السياسية.
استعارة سياسية
يرى الباحثون في
كتابات هربرت، أن الفريمان يشكلون إحالة إلى قادة حركات تحررية من القرن التاسع
عشر، مثل شامل الداغستاني، الذي يعد أشهر المقاومين لضمّ روسيا للقوقاز، وعبد
القادر الجزائري الذي يعد أحد رموز المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي للجزائر، ومحمد
أحمد المهدي قائد الثورة المهدية ضد الحكم المصري البريطاني في السودان، إلى جانب
تأثره بتجربة لورانس العرب وكتاباته.
عند مشاهدة
الفيلم، سنلاحظ فيه بعداً استشراقياً واضحاً، فصورة الغزاة حاملو الأسلحة وأصحاب
الحضارة، توازيها صورة شعب الفريمان الذي يعيش في صحراء قاحلة، ويؤمن بالغيب
وبمعتقدات سحرية. فهل تعمّد هربرت هذا الجانب الاستشراقي في كتابه، أم أنه تأويل
خاص بصاحب النسخة السينمائية فيلنوف؟
يقول الكاتب
والباحث في التاريخ والقانون في جماعة برينستون هاريس دوراني، إن الاستشراق في
سلسلة الكتب أقلّ فجاجة وتبسيطاً من الفيلم.
يرى هاريس دوراني
أن كلا من الفيلم والكتاب ينطلقان من زاوية استشراقية في تصوير السكان الأصليين،
والصحراء، والإسلام، ولكن كلّا منهما يفعل ذلك بطريقة مختلفة. "من الاختلافات
البارزة بين الاثنين، هو أن هربرت، على سبيل المثال، جعل كل شيء في عالمه مسلماً؛
صحيح أنه يقدّم في الرواية تقاليد دينية مختلفة، إلا أن الإسلام طاغ، وليس مجرد
واجهة".
ويضيف أن العمل
الأدبي "يلجأ إلى استعارات كثيرة (من التاريخ)، ولكنه أيضاً يخمّن المستقبل،
ومن خلال المزج بين الاستعارة والتنبؤ، يحاول هربرت أن يظهر تهافت فكرتنا عما هو
شرق وعما هو غرب".
برأي دوراني:
"يعدّ كتاب هربرت تطبيقاً عملياً لجانب مما أراد إدوارد سعيد إيصاله في كتابه
"الاستشراق" (الصادر عام 1978، أي بعد الرواية بعقد تقريباً)، وهو أنه
لا يمكن النظر إلى مفاهيم الشرق والغرب بوصفها تمثيلا لوحدات ثقافية متجانسة
داخلها ومنفصلة ومختلفة عن بعضها. أما الفيلم، فيقلب الآية، إذ يستغني عن الجانب
التخميني حول مستقبل البشرية الذي تخيل هربرت أن الإسلام سيلعب دوراً مهماً فيه،
ويكتفي بالاستعارة السياسية عن الاستعمار، ويذهب إلى التجريد، ويعامل الآخر كهوية
مجرّدة".
باختصار، بحسب
دوراني، فإن هربرت كان يحاول أن يفهم الإسلام بكافة تعقيداته، في حين يقع الفيلم
في فخ تصويره "كهوية مجردة".
الجهاد أم الحرب؟
يرى المختصون
بدراسة عمل هربرت على سلسلة "كثيب"، أنه أرادها تعليقاً سياسياً على
تهاوي الامبراطوريات الاستعمارية، وعلى هوس الإنسان الغربي بعقدة المخلص، وصعود
الحضارات الكبرى وسقوطها، إلى جانب اهتمامه الكبير بانعكاس التطور التقني على
"روح البشرية".
ومن خلال استقائه
من البدو والعرب وقبائل السكان الأصليين في الولايات المتحدة، كان يحاول أن
"ينتقد نزعة الرجل الغربي لفرض نفسه على البيئة، وكان يعتقد في ذلك الحين أن
الشعوب الأخرى، مثل العرب، على تماس وتناغم أكبر مع البيئة، خصوصاً أن السلسلة
قائمة على هاجس بيئي"، بحسب كارجو راوري.
ويرى كارجو راوري
أن هدف هربرت كان "تدمير صورة الرجل الغربي" أو "المخلص
الأبيض" الذي يريد أن يجعل من نفسه إلهاً"، ولكنه حين فعل ذلك،
"وضع الشخصية الغربية في المركز".
يقع الفيلم في
الفخّ ذاته، ولكنه يذهب خطوة أبعد، من خلال إزالة أي إشارة إلى الجهاد كما يرد في
الكتاب، والاستعاضة عن المفردة بعبارة "الحرب المقدسة"، ربما خشية
الوقوع في فخ التنميط. ولأسباب تسويقية تتعلق بكونه يعمل على فيلم تذاكر، وترتبط
بوقع كلمة جهاد اليوم، والصورة السلبية المرتبطة بالمصطلح.
يقول علي كارجو
راوري: "المثير للاهتمام أن هربرت لم يكن لديه اعتقاد مسبق أن الإسلام هو شيء
جامد واحد. مراجعه وأبحاثه في تلك الفترة، جعلته على تماس مع إسلام يختلف عما
نعتقد أنه الإسلام السليم اليوم، أي قبل صعود موجة السلفية التي وضعت التأثيرات
الصوفية في الخلف".
من خلال مراجعته
لأوراق ووثائق فرانك هربرت، يقول راوري إن أحد مصادر خيال هربرت الأدبي كان
الاحتكاك مع "المهاجرين العرب والإيرانيين والأرمن في سان فرانسيسكو
الخمسينيات والستينيات، إلى جانب السود المسلمين الذي شكلوا وجهاً أساسياً من أوجه
المدينة. وهنا لا يجب أن ننسى أن الإسلام المعياري الشائع بين من هاجروا إلى
الولايات المتحدة في الخمسينيات، هو، تماماً مثل إسلام معظم أجدادنا وجداتنا في
المنطقة العربية وتركيا، كان متأثرا بالتصوف بشكل كبير".
أساطير ومخلصون
تدور الحبكة السياسية
في "كثيب" على خلفية أسطورية ودينية، لا يظهرها الفيلم بشكل واضح، ولكن
الكتاب يفرد لها مساحة كبيرة.
يفكك هربرت في
العمق فكرة المخلص، وتمسك البشرية الدائم بعودة المنقذ الموعود، من خلال شخصية بول
أتريديس الذي سيعرف لاحقاً بـ"المؤدّب".
يقول دوراني إنه
فعل ذلك لتفكيك فكرة صناعة الأساطير، وتشكل القيادات السياسية المعصومة إذ
"أراد أن يبحث كيف تتقاطع عوامل مثل الدين والسياسة والرأسمالية والبيئة في
صناعة ذلك البطل أو القائد، لذلك أراد العودة إلى عمق الأديان، وعلاقتها بالوعي
البشري، من خلال فكرة ظهور القادة الدينيين".
ويضيف: "لا
أعتقد أنه أراد الدخول في تفاصيل الفوارق بين الأطياف والمذاهب، بقدر ما كانت
مهتما ًبفهم ما يحدث في السياسة عند وفاة النبي أو القائد".
فهل كان هربرت
يشير إلى شخصية المخلص الموعود ببعدها الديني من خلال الإحالة إلى المهدي، أم
أرادها استعارة سياسية أيضاً؟
يقول هاريس
دوراني إن هربرت كان يحيل إلى هذين البعدين في وقت واحد: البعد السياسي من خلال
الاستقاء من الدولة الفاطمية والإسماعيليين والإحالة إلى الشخصيات المختلفة في
التاريخ التي أعلنت نفسها المهدي المنتظر، والبعد الديني من خلال الاستلهام من مرويات
المسلمين عن نهاية الزمان، وظهور المهدي والمسيح الدجال والحرب قبل تحقيق العدل
للبشر.
من جهته، يرى علي
كارجو راوري أن شخصية المهدي بالنسبة لهربرت هي بحد ذاتها استعارة سياسية. يقول:
"من هو المهدي؟ هو رمز نهاية الظلم".
إرسال تعليق