جيرستين ضابط نازي حاول وقف محرقة اليهود بأي ثمن لكن نهايته كانت غامضة |
كان
الغاز هو «الزيكلون ب»،
وهو نوع من حمض الهيدروسيانيك أو حمض البروسيك، والذي يطلق أبخرة قاتلة عند ملامسته
للهواء، وكان الضابط هو كورت جريستين الذي تلقى، في وقت سابق من ذلك العام، وثيقة إعلامية
حول إنشاء المباني الضرورية في بولندا المحتلة، لحرق اليهود بالغاز.
شك
«جيرستين»
في أن «الزيكلون ب»
هو الوسيلة التي سيتم بها تسريع القتل الجماعي، وعلى الرغم من سترته السوداء مع ومضات
شارة الـSS البراقة،
فإن الضابط لم يكن نازيًا عاديًا.
انضم
«جيرستين»
إلى SS «الوحدة
الخاصة باليهود» لفضح جرائمها، وبعد
أن عرف ما يدبرونه لقتل اليهود، وتخطى دوره أن يكون شاهدًا على الرعب فحسب، تلقى
أمرًا بضمان تسليم أداة القتل إلى وجهتها، لكنه اختار أن يوقف هذه المحرقة بأي ثمن.
كان
«جيرستين»
جاسوسًا من طراز خاص، وهدفه هو إنساني، كل ما أراده هو التصدي لعمليات القتل الجماعي
ضد اليهود في أفران الغاز.
عندما فشلت المقاومة.. تسلل إلى قوات الأمن الخاصة
كان
كورت جيرستين، الرجل الطويل النحيف ذو الوجه الجاد والعيون الداكنة، في الخامسة
والثلاثين من عمره عندما تقدم بطلب للانضمام إلى وحدات الـSS في سبتمبر 1940، وهي
الوحدات المعنية باليهود في جيش القوات الأمن الخاصة بهتلر.
أظهرت
نظرة سريعة على سجله أن لديه ما يؤهله للتجنيد المثالي، لقد ولد في أسرة محافظة
بشدة، وكان كلا والديه من النازيين المتحمسين.
بإلقاء
نظرة فاحصة على حياته، تظهر الإرادة والشجاعة والتمرد، ففي المدرسة اكتسب سمعة
بسبب التغيب عنها، إلى جانب اتصافه بالوقاحة، وهو سلوك جعله في صراع مع والده، ثم
وجد الراحة في الكتاب المقدس، وعندما ترك المدرسة للدراسة ليصبح مهندس مناجم، أمضى
عطلات نهاية الأسبوع في كتابة كتيبات لدائرة الكتاب المقدس الوطنية.
عندما
وصل النازيون إلى السلطة في عام 1933، غضب «جريستين»
من خطط هتلر لإنشاء كنيسة بروتستانتية ألمانية متأثرة بالنازية، وفي فبراير 1935، وقف
في مسرح للاحتجاج على مسرحية «معادية
للمسيحية»، وتعرض للضرب يومها
من قبل أعضاء شباب هتلر.
واصل
دون رادع انتقاده العلني لنظام هتلر، وتم القبض عليه مرتين ولكن بعد أن أمضى عدة
أسابيع في معسكر اعتقال، بدا فجأة وكأنه تغير، وربما بدأ وقتها في تغيير خطته من
المقاومة إلى التجسس، وحاول الحصول على وظيفة في منجم البوتاسيوم، ساعده شباب هتلر
المحلي واستطاع الحصول على شهادة النازية.
لكنها
كانت خدعة، أدرك «جريتسين»
أن النازيين سيدمرون أي شخص يعتبرونه عدوًا، لذا فإن الطريقة الوحيدة لتغيير
النظام هي من الداخل.
زادت
رغبته في فضح النظام بعد أن اكتشفت شيئًا خطيرًا، فأثناء الاستفسار عن وفاة أحد
أقاربه، اكتشف جريستين أن النازيين قد بدأوا برنامجًا سريًا للقتل الرحيم لـ«المصابين
عقليًا». قال «جيرستين»:
«أريد الآن معرفة ما يحدث».
في
15 مارس 1941، بعد ستة أشهر من تقديمه، تم قبول كورت جيرستين في Waffen-SS. في
غضون أشهر، ولفت نظر رؤسائه بسبب تفانيه في عمله ومعرفته بالهندسة والطب، وتم نقله
إلى معهد الصحة في برلين، حيث كان يعمل الكيميائيون في سرية تامة في تجارب الرايخ.
عندها طور طرقًا للتعامل مع تفشي مرض التيفوئيد، سرعان ما أصبح خبير المعهد الرائد
في التطهير والصرف الصحي.
المهمة " نريد منك تحسين خدمة غرف الغاز لدينا "
كان
الثلج يتساقط في برلين صباح يوم 20 يناير 1942، عندما اجتاحت سلسلة من السيارات
السوداء بوابات فيلا فاخرة في ضاحية وانسي جنوب غرب المدينة، حيث تمت دعوة حوالي
15 من كبار المسؤولين في الرايخ لحضور اجتماع خاص في هذا الموقع الهادئ، حيث قدم
لهم ضباط الجيش المشروبات.
بترتيب
من راينهارد هيدريش، رئيسSD ، وهي وكالة استخبارات تابعة لـSS، تم تكليفه ورفاقه بمهمة «الاستعدادات
الضرورية لتنظيم الحل النهائي للمسألة اليهودية في نطاق النفوذ الألماني في
أوروبا، ووضع الاجتماع النظرية موضع التنفيذ، وأصبح الهولوكوست قيد التنفيذ، وعرف
الحل النهائي بأنه «القضاء
على اليهود».
بعد
بضعة أشهر، وصل لـ«جريستين»
أمر مفاده «اجمع زيكلون بي وقم
بتسليمه إلى الشرق».
وفي
أوائل أغسطس، سافر «جريستين»
مع قافلة إلى منطقة غابات في تشيكوسلوفاكيا السابقة، لالتقاط حاويات الغاز من مصنع
البوتاس قبل التوجه إلى بولندا، كان في حينه يعاني من الاضطرابات الداخلية بسبب إدراكه
لقسوة ما يفعله، في المحطة التالية، تظاهر بتفتيش الشحنة وأخبر الآخرين أن إحدى
الحاويات تتسرب، ثم ساعدوه في دفنها على جانب الطريق: «كان
انتصارًا صغيرًا.. لكنه انتصار».
وصلت
قافلة «زيلكون ب»
أخرى إلى ثكنات SS في
لوبلين في 17 أغسطس 1942، وكان قائد شرطة SS المحلي، البريجادير جنرال أوديلو
جلوبوشنيك، ينشئ شبكة من معسكرات الموت في بلزيك وسوبيبور وتريبلينكا، ويتفاخر
بعمله الذي يهدف تصفية جميع اليهود البولنديين، كان القتل الجماعي في بلزيك قد بدأ
بالفعل، وكانت الخطة تقضي بقتل كل يهودي في غضون ساعات قليلة من وصوله.
قال
«جلوبوشنيك»
وهو ينظر إلى «جريتستين»:
«نحن بحاجة إلى تحسين خدمة
غرف الغاز لدينا»،
هذه هي مهمته الجديدة.
إبلاغ السويد عن
التحضيرات للهولوكوست
بعد
عدة أيام، أتيحت له فرصة لقاء الدبلوماسي السويدي جوران فون أوتر في القطار من
وارسو إلى برلين، وفي محادثة استمرت عدة ساعات، أخبر الدبلوماسي بما رآه وحثه على
نشر المعلومات دوليًا.
تحدث
فون أوتر مع مسؤولين رفيعي المستوى في وزارة الخارجية السويدية، لكن ما كشف عنه «جريستين»
لم يتم نقله إلى الحلفاء ولا لأي حكومة أخرى.
في
هذه الأثناء، حاول «جريستين»
الاتصال بممثلي الفاتيكان والملحق الصحفي في المفوضية السويسرية في برلين، كان أحد
معارفه هو المواطن الهولندي جيه إتش أوبينك، الذي طلب منه نقل شهادته للمقاومة
الهولندية.
أشار
عضو في الحكومة الهولندية في المنفى (في لندن) في مذكراته إلى شهادة مشابهة جدًا
لتقرير جريستين، ولكن كما يبدو أنه لم يكن لتصريحات جريستين للدبلوماسيين والمسؤولين
الدينيين، خلال الفترة من عام 1942 حتى عام 1945، إلا تأثير ضئيل مخيب للآمال.
بعد
استسلامه في أبريل 1945، أُمر «جريستين»
بالإبلاغ عما رآه في معسكرات الإبادة، أولاً بالفرنسية، تليها نسختان ألمانيتان في
مايو 1945.
ويناقش
المؤرخ الفرنسي المميز بيير فيدال-ناكيه، في كتابه Assassins of Memory، ماحدث مع جريتستين، كما كتب المؤرخ
كريستوفر براوننج: «العديد
من جوانب شهادة جريستين إشكالية بلا شك، مثل تصريحاته عن ارتفاع أكوام الأحذية والملابس
في بلزيك وتريبلينكا».
لكن
بحسب المؤرخ فإنه من الواضح أن جريستين كان يبالغ بعض الشيء، كما أضاف أن الضابط
كانت له مزاعم مبالغ فيها بشكل فاضح حول أمور لم يكن شاهد عيان عليها، مثل تعرض ما
مجموعه 25 مليون يهودي وآخرين للغاز، ولكن في الموضوع الأساسي، وهو أنه كان في
بلزاك وشهد عملية نقل الغاز.
انتحار أم قتل؟
( الكلمات المفتاحية )
إرسال تعليق